مع آية من آيات الرحمة

Cover Image for مع آية من آيات الرحمة
نشر بتاريخ

قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران/ 159).

جاءت هذه الآية أثناء الحديث عن غزوة أحد التي لاقى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من أصحابه رضي الله عنهم ما لاقاه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما علم بخروج قريش لحربه رأى أن لا يخرج إليهم، وأن يحاربهم من داخل المدينة. لكن  شباب الصحابة وخصوصا الذين لم يشهدوا بدرا ألحوا عليه بالخروج، فخرج.

ثم إنه لما وصل أرضَ المعركة اختار خمسين من أمهر الرماة وحدد لهم موقفا استراتيجيا على جبل وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل حتى لا يُؤتى المسلمون من ظهورهم. وشدد عليهم في عدم مغادرة مكانهم من الجبل قائلا: “إن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل لكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم” 1. فتركوا مكانهم قبل أن يأذن لهم ظنا منهم أن الغزوة قد انتهت طمعا في الغنائم. فأوتي المسلمون من قِبَلهم. فانهزموا بعد انتصار، واستشهد خلق كثير من الصحابة منهم مصعب بن عمير، وخلص إلى النبي صلى الله عليه وسلم جراحات، وشج وجهه الكريم وكسرت رباعيته. ثم إن جمعا من الصحابة فروا عنه وتركوه في أرض المعركة مع نفر قليل من المسلمين.

فالصحابة بأعمالهم هذه وبمقتضى الجبلة البشرية يستحقون الملامة والتعنيف وحتى العقاب، لكن الله عز وجل امتن عليهم أن ألان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم برحمة منه. فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ “فقد عفا الله عنهم برحمته فَلاَنَ لهم الرسول بإذن الله، وتكوينه إياه راحما.  قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ 2.

والرحمة رزق من الله يؤتيه من يشاء من عباده، ويحرمه من يشاء، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: “وما أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة” 3.

والرسول صلى الله عليه هو الرحمة المهداة، الرؤوف الرحيم. وسيرته ملأى بمظاهر الرحمة؛ مع المسلم والكافر، والكبير والصغير، وحتى الحيوان والجماد. وقد لازمته هذه الخصلة طيلة حياته. وحث أصحابه عليها وبيّن لهم فضلها، قال صلى الله عليه وسلم: “الرَّاحِمونَ يرحَمُهم الرَّحمنُ تبارَك وتعالى؛ ارحَموا مَن في الأرضِ يرحَمْكم مَن في السَّماءِ” 4، “لا تنزع الرحمة إلا من شقي”  5.

فاقتداء برسولنا الكريم، وإحياء لسنته وسيرته في الناس بالرحمة التي كانت سببا في ثبات المسلمين على إسلامهم، كما كانت سببا في دخول كثير من الكفار إلى الإسلام، وجب علينا التحلي بالرحمة في كل مراحل الدعوة إلى الله.

فبرحمتنا للخلق جميعا ننال جزاء من هدى الله به، “وإن  الهداية  هدايات: كافر يدخل الإسلام مهتديا، ومسلم يخطو نحو الإيمان مقتفيا، ومومن يرتقي صحبتك مرتديا حلل القرب من الله عز وجل. ذلك هو الفوز الكبير..” 6.

وفي الآية صفات حميدة وصف الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم وجب علينا التحلي بها والاقتداء به فيها؛ من الرحمة واللين والعفو…

ثم في الآية صفتان ليس الرسول صلى الله عليه وسلم من أهلها؛ هي الفظاظة والغلظة المنفرتان للناس. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: “إني أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح”.

ثم بين الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن سيأتي بعده كيفية التعامل مع الناس لتأليف قلوبهم. فقال سبحانه وتعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ “فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك”. والعفو في أكمل صوره من سماته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه فقد سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم عن أشد المواقف التي تعرض لها فقالت: “يا رسول الله هل أتى عليك يوم هو أشد من يوم أحد؟” فأجابها بأنه يوم الطائف، فلم يزد  أن قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمَلَك الذي جاء لينتقم له من أهل الطائف: “أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا”. كما اعتذر صلى الله عليه وسلم لله من قريش وقد أدموا وجهه الشريف: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.

ثم قال سبحانه وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ: أي استغفر الله لهم فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وتعالى إتماما للشفقة وإكمالا للتربية.

ثم قال تعالى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ: أمره بمشاورة أصحابه والأخذ بمشورتهم على الرغم مما كان للشورى من عواقب ونتائج سيئة في هذه الغزوة خاصة. قال الحسن قد علم الله عز وجل أنه ما به إلى مشاورتهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده. عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

والشورى توجيه رباني، ومنهج نبوي محمدي، مطلوبة محمودة في مراتب المصالح كلها. مصالح الأسرة، ومصالح البلد، ومصالح الأمة.. فقد مدح الله الأنصار في قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ (الشورى، من الآية 38)، واشترطها الله سبحانه في أمر الأسرة حين قال عز من قائل: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا (البقرة، 233).

ثم قال تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (آل عمران، من الآية 159). شَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي المُقَامِ أو الخُرُوجِ، فَرَأَوْا الخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لَأْمَتَهُ وَعَزَمَ قَالُوا: أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ العَزْمِ، وَقَالَ: «لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ لبِسَ لَأْمَتَهُ أن يَضَعَهَا حَتَّى يقاتل” 7.

وعزيمة المرء الموفقة هي التي تتوسط أمرين: الاستشارة والتوكل. فلن يندم من استشار فعزم فتوكل.

وفي الأخير تبين الآية حقيقة التوكل فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ قال ابن رجب: “التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها. أو في دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها. وهو من أعلى المقامات لوجهين؛ أحدهما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ والآخر الضمان الذي في قوله تعالى وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (الطلاق، من الآية 3).

يقول الإمام الشعراوي: وعزمت تقتضي عزيمة، والتوكل يقتضي إظهار عجز. فمعنى أني أتوكل على الله: أنني استنفذت أسبابي ولذلك أرجع لمن عنده قدرة  وليس عنده عجز.  وهذا هو التوكل المطلق. وهو أدب عظيم مع  الخالق، يدل على محبة العبد ربَّه، فلذلك يحبه ربُّه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.

فاللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتن عنا، وتصلح بها حالنا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا، وتبيض بها وجوهنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.


[1] أخرجه الإمام أبو داود في صحيحه، رقم الحديث 2662.
[2] التحرير والتنوير، ابن عاشور.
[3] حديث: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أتُقبِّلونَ الصِّبيانَ؟ فما نُقبِّلُهم فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (وما أملِكُ لك أنْ نزَع اللهُ الرَّحمةَ مِن قلبِك) أخرجه ابن حبان في صحيحه (5595).
[4] أخرجه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (6494).
[5] أخرجه الترمذي (1923).
[6] رسالة إلى مجالس النصيحة للأستاذ عبد السلام ياسين.
[7] أخرجه  الإمام أحمد 3 /351.