في سيرة المغرب ومسيرته، كما في سائر الأمم، أيام عظيمة ومناسبات مجيدة، سطّرها الأولون والآخرون، دوّنتها كتب التاريخ. يعتز بها الوطن، وتستند إليها الهوية، وتجد فيها الذات الجماعية نفسها، ويرفعها الشعب عنوان اعتزاز وشعار فخار. وما مآثر الزلّاقة ووادي المخازن وجهاد الخطّابي ومعارك الحركة الوطنية… عنا بغريبة ولا بعيدة، فهي جزء رئيس من ماهيتنا التي نعرّف بها أنفسنا ونقدمها إلى العالم.
وفي تاريخنا أيضا، انكسارات وهزائم وتراجعات وإحباطات، وهي لعمري جزء طبيعي من الحياة التي لا تستقيم على مسار واحد ولا صعود دائم، بل إنها قد تكون محطات تقويم وولادة جديدة، واستخلاص دروس للانبعاث الآخر، ووقوف عند مسببات الإخفاق بهدف الانطلاق المتجدّد. لكن، حين تصطبغ تلكم المناسبات واللحظات بصبغة الخيانة للمبادئ وطابع الدوس على القيم، فإننا نكون قطعا بإزاء سقوط كبير واندحار خطير.
مناسبة هذا الكلام/المفارقة، أننا معاشر المغاربة نخلد اليوم (22 دجنبر 2022)، بألم بليغ وحسرة شديدة، الذكرى الثانية لاتخاذ قرار التطبيع الرسمي من قبل النظام المغربي مع كيان الاحتلال الصهيوني، قرار اتُّخذ فوقيا من قبل رئاسة الدولة، وبصم عليه في حينه رئاسة الحكومة ولاحقا سائر الوزراء والمؤسسات عبر اتفاقات تفصيلية رامت التمكين لهذا التطبيع المستهجن؛ في معظم المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية والصحية والرياضية والتعليمية… حتى بدا أننا أمام سعي حثيث لاصطناع عمق مجتمعي وانتزاع شرعية شعبية لهذا الخيار الخائن والمسار الساقط.
المستغرب هنا، أن نظامنا السياسي فاق نظراءه في التمكين لعدو الاحتلال في بلدانهم، بل فاق حتى سابقيه (مصر والأردن)، عبر وتيرة تطبيع مجنونة، ومن خلال تعميم يروم المساس بعمق المجتمع المغربي ولا يقف عند القضايا السياسية الفوقية، وهو ما يدفع كل تبرير ممجوج -قيل لحظة قرار التطبيع وبعدها- يتمسّح بإكراهات السياسة!
ولعله من محاسن الأقدار، أو من حسن نيّة المغاربة الذين لهم في القدس حارة وفي الأقصى باب وفي فلسطين تاريخ مجيد، أن الأحداث التي توالت بعد ذلك، والتي تُصنع على عين الله، جاءت برسائل ناصعة البيان وتقريعات شديدة الوضوح، لعلّ من يهمهم الأمر يدركون الحكمة ويعتبرون.
من تلكم الرسائل التي جاءت من هنا وهناك:
– معركة سيف القدس (ماي 2021)، التي أبانت مجدّدا أننا أمام صاحب حق راسخ في أرضه، لا يضيره أن يقدّم أطفاله وخيرة شبابه ورجاله ونسائه شهداء للقضية والوطن، بقدر ما أوضحت أن نظامنا الحاكم وضع يده الآثمة في يد مجرمة تقطر دما، لا تتردد لحظة في دكّ رؤوس العزل وبني البشر بكل أسلحتها الفتاكة، دون أن يرفّ لصاحبها جفن.
– الاعتداءات والاقتحامات التي توالت وما انقطعت على القدس وساكنيه والأقصى ومرابطيه، وما قضية حي الشيخ جرّاح إلا واحدة من تجليات بشاعة أطول احتلال في العصر الحديث، وما البرود الذي اغتيلت به صحفية تؤدي مهمة نقل الحقيقة (شيرين أبو عاقلة) والانفضاح الذي تعامل به كيان الاحتلال مع جنازتها، إلا كاشف آخر عن حجم الخطيئة الكبرى التي وقع فيها نظام الحكم المغربي.
– التطاول على حرمات المغربيات والمغاربة في عقر دارهم، يوم انفضح الفعل الشنيع للسفير الصهيوني في عاصمتنا الرباط، وهو يتحرّش بهذه وتلك، في عربدةِ مطمئنٍّ إلى جرمه، وكأنّه منح من جهة ما “كارط بلونش” لفعل ما يشاء. وإنها لغاية في الغرابة، والسّفاهة أيضا، أن يُدخَل الغادر السفّاح إلى قلب الدار ليعبث فيها!
– الرفض الشعبي الواسع لقرار التطبيع الانفرادي، وهو الرفض الذي بدا ظاهرا رغم كل المحاولات والمبادرات المكشوفة؛ وما تلك الأيام الوطنية الاحتجاجية، التي ينظمها نسيج مغربي متماسك الموقف إزاء القضية تقوده الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع، والتي تخرج فيها عشرات المدن وآلاف المواطنين والمواطنات من كل الشرائح والأعمار والأجناس، إلّا رسالة أخرى أنّ الشعب المغربي يرفض التطبيع مع من يحتل أولى قبلتيْنا ويذبّح إخواننا ويدوس أبسط مبادئ الإنسانية والآدمية.
– الصورة الناصعة البيان التي قدمها منتخبنا الكروي في العرس العالمي في قطر، حين جمع إلى أدائه الكروي الممتاز وسلوكه الأخلاقي الجميل، موقف لاعبيه وطاقمه الرجولي الصريح بتوشّحهم الدائم بالعلم الفلسطيني، وتعبيرهم -بموقفهم هذا- عن دعمهم الدائم لشعب فلسطين وقضية فلسطين. وهو ما كشف من جديد، خاصة حين نضيف إليه تعابير الجمهور المغربي والعربي وأهازيجه وشعاراته وألبسته، حجم الانغراس العقدي والهوياتي لهذه القضية العادلة في الأعماق البعيدة والوجدان الجمعي للشعب المغربي.
ونحن نستحضر هذه الرسائل المتعدّدة التي انهالت على وطننا تترى، والتي تنضَح حكمة، لعل أصحاب القرار يدركونها فيعتبرون ويتعظون ويرعوون، لا يمكننا في الذكرى الثانية لقرار التطبيع الخائن الخائب الخاسر، إلا أن نجدّد موقفنا القوي الرافض لأي علاقة مع كيان الاحتلال الصهيوني، ولا يمكننا إلا أن نؤكد إدانتنا لهذا القرار الذي يمثّل سقطة كبرى، لا يجبّها إلا الارتداد إلى الحق الأبلج. فالخيانة ليست وجهة نظر.