فقه التوبة (1)

Cover Image for فقه التوبة (1)
نشر بتاريخ

الحديث:  

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَلَهُ أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه. فأيس منها. فأتى شجرة فاضطجع في ظلها. قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده. فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح”.  [أخرجه مسلم].

هناك ذنوب تصيب الإنسان، وهناك ذنوب  يصيبها الإنسان. فالذي تصيبه تكفرها الطاعات، ويذهبها الوضوء وتمحوها الصلاة. وأما التي يصيبها فتحتاج إلى توبة عاجلة.

تعريف التوبة:

التوب: التاء والواو والياء كلمة واحدة، تدلُّ على الرجوع. يقال: تاب من ذنبه، أي: رجع عنه، يتوب إلى الله توبة ومَتَاباً، فهو تائب. والتوب التَّوبة، قال تعالى: وَقَابل التَّوْب [غافر 3]. (مقاييس اللغة /أحمد بن فارس/ ص: 131).

ـ توب: التوب ترك الذنب على أجمل الوجوه وهو أبلغ وجوه الاعتذار. فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه:

1 – إما أن يقول المعتذر لم أفعل.

2 – أو يقول فعلتُ لأجل كذا.

3 – أو فعلت وأسأت وقد أقلعت ولا رابع لذلك.

وهذا الأخير هو التوبة، والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والنّدم على ما فرَطَ منه والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كَمُلَ شرائط التوبة. (معجم مفردات القرآن/الراغب الاصفهاني/ ص86).

 ـ التوبة رجوع وإنابة وتصحيح مسار للعبد مع ربه سبحانه وتعالى.

والتوبة لا تنفع إلا إذا كانت صادقة خالصة، ولا تكون كذلك إلا إذا أيقن التائب حتمية  الرجوع والإنابة وتصحيح المسار إيقاناً صادقا لا شكاً ولا ريبة، أو حماساً واندفاعاً.

كثير منا من يدفعه حماس مرهف أو تشجيع لَحْظِيٌّ فيقتحم ويتوب وهو غير مقتنع بما هو عليه من الخطأ، أنه خطأ ويجب الرجوع عنه، وما زالت نفسه تشتهي ما هي فيه. فمصير هذه التوبة الفشل في العاجل القريب نسأل الله السلامة ورفع الملامة.

ـ يصور الحديث حال التائب بالشخص الذي ضل الطريق أو ضلت منه حاجته التي يعتمد عليها في الحياة.

هذا المسافر الذي جمع متاعه وطعامه وشرابه ليتزود به لرحلة صحراوية طويلة وشاقة ارتبطت حياته ومصيره بهذه الدابة التي تحمل متاعه، إذ تضيع وتنفلت منه في وسط صحراء لا يرى أولها من آخرها، فكأن الحياة ضاعت منه، فيبحث عن ضالته فلا يجدها في وسط محكوم على الجميع فيه أن يشعر بالتيه والضلال.

كذلك الإنسان الغارق في الضلال هو ضال عن الطريق، فاقد لعنصر الحياة الحقيقية.

ـ شبه الحبيب صلى الله عليه وسلم الدين والاتصال بالخالق بالدابة التي عليها مقومات حياة المسافر.

أنت بلا دين وبلا رب يرعاك ويحفظك وترجع إليه محكوم عليك بالموت البطيء.

نعم ضاع منك شيء ثمين تريد استرجاعه، لأنك بدونه ميت. فإذا أيقن العاصي بهذا وأيقن بحتمية الرجوع فهذا هو لب عنصر التوبة.

ـ التوبة في أجمل صورها عطاء من الله وهداية منه يسوقها إليك لتقبلها أو ترفضها لما يعلم ما ألمَّ بك من تعب ونصب وكَدّ في الطلب. إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يوتكم خيراً. (الأنفال 70).

فهل تقبل البشرى والعطاء وتعض عليه بالنواجذ أم تستسلم لعملية التسويف؟ هل تقبلها على مضض ونفسك تحدثك بنشوة ما كنت فيه وتقبلها على خجل لتعود وتعيد الكرة وتطرق أبواب الضلال؟

ـ يجب أُخَيَّ أن نعتبر التوبة ضالتنا يجب أن ننشدها بشدة ولهفة كما ينشد المسافر في فيافي الصحراء ضالته التي عليها طعامه وشرابه، إنه يَجدُّ ويَجدُّ في الطلب لأن الدابة أصبحت حياته، وكذلك علينا أن نعتبر التوبة حياتنا ومربط خلاصنا من الهلاك.

ـ التوبة حياة باعتبار أن ما كان على ظهر الدابة من مقومات الحياة ضرورة لسفرك ورحلتك، وكذلك هي التوبة.

التوبة حياة لأنها تربطك بواهب الحياة، المبارك في الحياة، فلا حياة حقيقية مباركة معتبرة ذات قيمة من دون الله تعالى. ودع أصحاب الهوى في هواهم يعبثون بالحياة.

ـ يخطئ من يظن أن التوبة شروط فقط وتوجه نحو القبلة، ورفع يد وترديد كلام موزون مقفى، بهذا لن تحظى بتلك الهداية الربانية ولو مرّرت كلماتك وابتهالاتك في باطن الكعبة أو على ظهرها.  

نائحة مستأجرة وغانية ممثلة تتقن الدور وفي عزمها ألا تغير الطور.

ـ التوبة صدق قلب واستجابة جوارح وتهمم وتحسر يدفعان الذات من رأسها إلى بنانها للإقلاع والبحث  المستمر للمخرج مع يقين جازم بأن ما هو عليه موت وخراب ودمار وعار وشنار.

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.  (الأنبياء 87) تلخص ما ذكر وتزيد.

ـ دروس وعبر:

1ـ عطية الله تؤخذ بفرح وسرور ماله مثيل، لهؤلاء يقول الله لهم افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم  ما دام هذا حالكم. وبما أن الله يجازي عباده من جنس العمل وطبقاً لقاعدة التضعيف، فالله أشد فرحاً برجوعك وإقبالك عليه منك حين استرجاع حياتك.

ألا ترى لهذا الذي أرجع الله إليه دابته كيف حرص عليها وأمسك بخطامها وفرح بها بل حتى إنه من شدة الفرح قال: “اللهم أنت عبدي وأنا ربك”.

نعلم من هذا أن الفرح بالتوبة والتحدث بها من شكر الله تعالى على هدايته لك إليها.

2ـ الداعية إلى الله يفرح بتوبة العاصين ويتودد إليهم ويقبل عليهم ويفتح لهم الطريق ويبارك لهم الخطوات ويتزعم مسيرة التائبين بتجديد التوبة والدعوة إليها؛ وتوبوا إلى الله جميعا أيها المومنون لعلكم تفلحون. (النور 31).

3 ـ الداعية لا يمل ولا يكل من الحظ على التوبة والاستبشار بها.

4 ـ ليس من خلق الداعية التشفي فيمن تعثرت به الحياة فشط عن الطريق، فكما هو مطالب بالفرح مطالب بالحزن والتَّهمم على من عصى أو افتتن في دينه.

 يدفعه تهممه هذا للدعوة للتوبة وإفشاء النصيحة وخلق الفرص لتمرير الدعوة إلى التوبة، فلربما صادفت كلمة منك قلبا واجداً تجد عنده الإنصات والقبول. قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم. (يوسف 92).

وقال  يعقوب لبنيه حين قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف أستغفر لكم ربي. (يوسف 97-98).

قال ابن القيم في كلام قيم:

 “تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه، وأشد من معصيته، لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب. وأن أخاك هو من باء به. ولعل كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذلة والخضوع، والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى، والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب. أنفع له، وخير له من صولة طاعتك، وتكثرك بها والاعتداد بها، والمنة على الله وخلقه بها، فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله وما أقرب هذا المدل من مقت الله، فذنب تدل به لديه أحب إليه من طاعة تدل بها عليه.

وإنك إذ تبيت نائما وتصبح نادما، خير من أن تبيت قائما وتصبح معجباً… وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلا هو فيك ولا تشعر” (ابن القيم / مدارج السالكين / ج 1/ ص/155).