صناعة الحرية (38).. التناوب على الحصار

Cover Image for صناعة الحرية (38).. التناوب على الحصار
نشر بتاريخ

التناوب على الحصار..

وجيء بما سمي بـ”عهد التناوب”، فعيَّن الملكُ واحدا من المناضلين المنفيين سابقا وهو الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي وزيرا أولا يوم 4 فبراير 1998م، توظيفا لما عُرف عنه من نضالية ونزاهة سابقة، وتسمَّت حكومته بــ“حكومة التناوب” 1! (1998-2002م)، وهو تناوبُ مخاتلةٍ؛ صُنع في ظاهره لإنهاء الصراع بين الملك والمعارضة عن طريق “التوافق”، وجُعل في باطنه لاحتواء المعارضة من أجل تفادي “السكتة القلبية” 2، واستئناف الحكم والتحكم على ما هو عليه من قبل، بل أشد.

ولا تناوب في الحقيقة وقع.

وها قد عاد الملك أخيرا إلى المضطَهدين والمنفيين والمعارضين لعتق رقبة الحُكم، بعد فشل دهاء “الثعالب العجوزة” 3 المحيطة به في حفظ قاطرة النظام وضمان استمراره، فالذي خطط له مهندسو المرحلة هو استمرار الحكم، بتدبير حيلة سياسية مفادها إظهار تنازلٍ شكلي وطفيف لجهةٍ ما تساعد في إسعاف انتقال الـمُلك وليس انتقال السياسة. وهو ما تأكد للجميع فيما بعد بتعيين الملك محمد السادس لوزير أول من خارج الأحزاب السياسية، أي خارج عن منطق التوافق، وتم طي صفحة الكلام عن التناوب بلا رجعة. واستحالت “المنهجية الديموقراطية” المعشوقةِ الممتنعةِ “منهجية مخزنية” متأصلة مستأنفة.

تراجع اليوسفي المناضل النحرير عن القول بأن “حجر الزاوية في نظام المخزن هو السلطان وريثُ العرش بِحُكْمِ الوِراثة السلالية، والذي يرافق تنصيبَه على العرش مهزلة احتفالات الولاء التي يشارك فيها ذَوو المناصب العالية المنصاعون كليا. هذه السلطة المطلقة التي يزيد من خطورتها خرافة “تمثيل الله على الأرض” التي صاغتها وتوارثتها أجيال من الاستبداد الشرقي، والتي لا تستند في الواقع على أي أساس ديني أو شرعي” 4، وعاد إلى تصديق دعوى السماح بانتهاج “منهجية ديموقراطية” تنتصر لإرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع، عرضها الحسن الثاني عليه وألزمه بعدم البوح بتفاصيلها التي بقيت سرا لا يعرفه الشعب 5، قبل أن يستيقظ -بعدما قضى المخزن وطره- على ارتداد السلطة إلى سالف عهدها في الاستفراد بكل شيء، و“انتهت التجربة بدون أن تفضي إلى ما كنا ننتظره منها” 6. آنذاك لا ينفع الاحتجاج من بروكسيل، ولا الاعتراف المتأخر بأن التجربة “لم تكن ثمرة تحالفات حرة بين الأحزاب المشكلة لها لقد كانت تجسيدا لقرار اتخذه الحسن الثاني” 7.

وظن بعض المغاربة مع حكومة اليوسفي (رحمه الله، وقد توفي اليوم 29 ماي 2020م) أن السلطة سيصيبها بعض الرُّشد بإسناد “حكومة التناوب” إلى مناضل ومثقف نزيه، فتُطلِق سراح عالم حُوصر حصار رأي وحصار فكر وحصار دعوة، وتُشرك الأمة حقا وبتدرج ووفق منهجية واضحة في تدبير الشأن العام، لكن التناوب -ويا للأسف! – كان اسما بينما المسمى “سلطانية” تقليدية؛ تحكُّمٌ في كل شيء، واستحواذٌ على كل شيء.

ومما ينبغي ذكره بهذا الصدد أن كثيرا من السياسيين، بل ومن زعماء اليسار المغربي 8 رفضوا مبدئيا المنهجية التي تعيَّن بها اليوسفي، وحذروا من الألعوبة التي رأوها ستُفوت على المغاربة فرصة هائلة للتغيير المجتمعي الحقيقي، لكن الاستعداد للمخزنة والتوثب نحو السلطة الذي راكمته فئات عريضة من المناضلين، جعلها تنظر إلى العرض السخي نهزة مواتية لممارسة السلطة، وإن خرجت عن خط النضال المشترك بين القوى السياسية المطالبة بالتغيير.

دعاهم الداعي إلى أداء وظيفة ما في لحظة ما ولغرض ما، وبشروطه هو ليس إلا، فاستجابوا طائعين خانعين، فكان مثَلهم كمثل من قيل لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ} (إبراهيم:22).

تبخرت الوعود الجميلة، واستمر الحصار والتضييق ونشطت المتابعات في كل مكان، فمُنعت عشرات الجمعيات ذات الصلة بالعدل والإحسان رغم قانونيتها، وصُودرت جريدة العدل والإحسان القانونية، وتضاعف قمع السلطة للحركات الاحتجاجية للمعطلين والطلبة والأساتذة والأطباء، واستأنفت السلطة انتهاكاتها لحقوق الإنسان، وبيعت قطاعات عمومية مهمة للخواص. وتبين أن حيلة التناوب عبر حكومة اليوسفي كانت لتلميع الصورة ليس إلا.


[1] تم الإعلان عن حكومة التناوب يوم 14 مارس 1998م، وتضم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية، بالإضافة إلى حزبي الحركة الشعبية والتجمع الوطني للأحرار.
[2] عبارة وردت في خطاب الملك الحسن الثاني سنة 1998م، بعد تقرير للبنك الدولي بشأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
[3] ياسين، عبد السلام. مذكرة إلى من يهمه الأمر، دون ذكر مطبعة، سلا، ط1، 2000م، ص 4.
[4] اليوسفي، عبد الرحمن. في كلمته بمناسبة الاحتفال بذكرى ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي، سنة 1970م، نقلا عن: ياسين، عبد السلام. حوار الماضي والمستقبل، مرجع سابق، ص 270.
[5] انظر: مجموعة مؤلفين. النخب والانتقال الديموقراطي: التشكل والمهمات والأدوار، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط1، 2019م.
[6] اليوسفي، عبد الرحمن. محاضرة بروكسيل، يوم 25 مارس 2003م. نقلا عن “وثيقة: محاضرة بروكسيل 2003م.. أو عندما يقيم اليوسفي تجربته بنفسه”، من موقع (lakome2.com)، منشورة بتاريخ 3 غشت 2016م، وشوهد في 29 ماي 2020م.
[7] المرجع نفسه.
[8] هناك أحزاب وجمعيات وفعاليات كثيرة لم توافق على قبول عبد الرحمن اليوسفي للعرض الملكي بترؤس الحكومة بعيدا عن المنهجية الانتخابية. انظر: الطائع، محمد. عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض، (د.ط)، الرباط، ط1، 1425ه/2014م. وانظر أيضا: كريستين السرفاتي (ت2014م) في حوار لها بجريدة المساء المغربية، منشور يوم 27 ماي 2009م، وشوهد في 29 ماي 2020م.