جماعة العدل والإحسان ومقاربة ظاهرة الحركة الإسلامية

Cover Image for جماعة العدل والإحسان ومقاربة ظاهرة الحركة الإسلامية
نشر بتاريخ

مسيرة الأربعين في تاريخ العدل والإحسان

نظرات وثمرات -2-

جماعة العدل والإحسان ومقاربة ظاهرة  الحركة الإسلامية

من الإشكالات التي طرحها ظهور الصحوة الإسلامية، ونشأة ما يعرف بالحركات الإسلامية أو حركات الإسلام السياسي، هذا الغبش الذي يؤدي إلى عدم فهم هذه الجماعات الإسلامية المتنامية، وما تبع ذاك من تساؤلات حول أسباب بروزها، وتصاعد نجمها، بل وأسئلة تهم حتى هذا التخوف منها؟ ولم التوجس والارتياب من نواياها، وسلوكها، وفكرها، وتصوراتها؟ وغير ذلك من الأسئلة المتشعبة والمتداخلة والمتكاثرة والمتجددة، ولعل جماعة العدل والإحسان المغربية قد نالت من جملة هذه التساؤلات النصيب الأوفر والأكبر  والأكثر في  محاولة فهمها وتحليل سلوكها السياسي.

لنؤكد أولا، أن الاختلاف وتعدد الفهوم في الأمر الواحد والقضية الواحدة سنة كونية مطردة، وأنه من المستحيل جمع الناس على صعيد واحد من التماثل الذي  يجعلهم نسخا متشابهة لا فروق بينها، وأن في تعدد الذوات، وتباين زوايا النظر سعة لتعدد المقاربات، وتعدد الأفكار واختلافها بل وتضاربها. لكن هذا لا يعني أنه ليست هناك جوامع مشتركة تجعل للشيء والفكرة معنى متصورا في الذهن والسلوك قائما على ملامح تبني هويته وذاته، وإلا فقد العالم “المعنى” و”الدلالة”، ودخل في” الوهم” و”اللامعنى”.

ولنثبت ثانيا أن مسألة الفهم وعدم الفهم قد تعود لأسباب في الذات التي لم تستطع أن تصل إلى الآخر؛ إما  لتقديرات مرحلية تفرض الانكفاء على الذات بناء وتربية وتنظيما، أو لضغط خارجي يمنع من الوصول إلى الآخر والتفاهم معه، أو لموقف من هذا الآخر رفضا أو توجسا، وإما لضعف في الكفايات التواصلية، أو نقصا في الإرادة والقدرات التدبيرية والتنفيذية. لكن قد تعود كذلك لموقف هذا الآخر من تلكم الذات للأسباب ذاتها أو غيرها، أو لأخرى بما يعتمل في النفوس والعقول البشرية من أهواء وميولات وتصنيفات وأحكام.

فهم جماعة العدل والإحسان

من المهم جدا التأكيد أن فهم جماعة العدل والإحسان كما تعرض نفسها بنفسها يقتضي الإشارة إلى العناصر التالية

أولا: إن القوالب التي يُنظر بها إلى الجماعة، والتي هي عبارة عن آليات للتفكير والتحليل مستقاة من الحقل السياسي والقانوني والاجتماعي، ومتحصلة من سنوات الدراسة في المدرسة المغربية أو العالمية التي هي مستنسخة مما أنتجه الآخرون على كل حال، قد تمنع الاستيعاب التام والمنصف لفكر الجماعة وتصوراتها. من هنا الجدل الذي قد  يحصل في إدراك “ماهية” و تحديد “هوية” جماعة العدل والإحسان: أهي زاوية صوفية لأنها تتحدث عن صحبة “الشيخ”، وعن “أوراد” الذكر، ومجالس “الرباطات”؟ أم هي حزب سياسي لأنها معارضة “راديكالية” للنظام، ولها “دائرة سياسية”، وتشارك في الاحتجاج الشعبي، وتصدر البيانات، وتنظم المسيرات، وتعبر عن المواقف، وتعاني المنع والاعتقال والقهر؟ أو هي حركة “ثقافية” لاهتمامها بالفكر والإنتاج العلمي، ومشاركاتها في الندوات والمحاضرات والمؤتمرات، ونشرها للكتب والمؤلفات؟

ثانيا: لأن المفاهيم الموظفة والمستقاة من تلكم القوالب الجاهزة لا تسعف في إدراك الظاهرة الإسلامية عموما وهوية الجماعة هنا خصوصا؛ لأنها  تنجز قراءة  بمفاهيم مستجلبة للغة من حقل التصورات الغربية الليبرالية أو النظريات الاشتراكية المادية كلها، وهي نظريات تقدم على أنها علمية وموضوعية من دون استحضار خلفياتها الفلسفية البانية للوجود، ومن دون استحضار  اختلاف السياقات والأنساق التاريخية، وبيئة التوطين والتبييئ؛ فمفاهيم مثل الدين، والسياسية، والحكم، والدولة والمجتمع والحزب والثقافة والمعارضة ليست ذات حمولات دلالية تصلح للتوظيف الوحيد والمتشابه. وكثيرا ما يؤدي النظر إلى الغير من حيث ذات الباحث وبتوظيف آلياته المعرفية والمنهجية إلى إسقاطات لا تقدم الظاهرة البحثية من حيث هي كما تعرض ذاتها رؤية ورسالة ومنهجا.

 ثالثا: إن للإرث التاريخي للأفكار والتوجهات والتيارات والتصورات التي راجت منذ أزمنة النهضة العربية أثرها الواضح في النظرة  إلى الظاهرة الإسلامية وإلى جماعة العدل والإحسان؛ إذ كيف لتيار طارئ على الساحة أن يأتي ليتنافس في مضمار تاريخ النضال والمقاومة والفكر والتقدمية والحداثة؟ بل وأن يكتسح ما يعد “الحمى” المكتسب لآخرين بقوة الوجود النضالي والموروث التاريخي، وأخطر من ذلك أن يجد لنفسه مساحات واسعة للحضور والحشد والتأثير والاستقطاب بفعل توظيفه للخطاب الديني وعزفه على الشعور الديني للشعب الأمي، واستغلاله لتقديم خدماته الاجتماعية للجماهير الفقيرة.

رابعا: لا يمكن أبدا أن نغفل سلوك الدولة المغربية في التعامل مع جماعة العدل والإحسان ونتائجه على محاولات فهم الغير للجماعة؛ السلوك الذي انبنى طوال أربعين سنة على القمع والمنع، والسجن والحصار، والتعذيب والقتل، والترسيبات والإعفاءات، وتشميع البيوت، وتلفيق التهم والإشاعات. وإذا استطعنا أن نفهم موقف “عامة الناس” لترسبات تمثلات سنوات الجمر والرصاص في الوعي الشعبي، و”للتربية” المخزنية الطويلة التي أنتجتها سنوات التحكم في مختلف آليات التنشئة الاجتماعية وما أفرزته من مفاهيم عمياء عن  الرهبة من “الحاكم” و”الطاعة”، وإذا قدرنا على فهم  موقف الدائرين في  فلك الدولة الذين صنعوا على أعين المخزن لوجود مصالح ذاتية في الاصطفاف إلى جانب النظام الحاكم المشهود له بالظلم والتجبر، فإنه لا يمكن أن ننفي حضور هواجس “التخوف” أو على الأقل حسابات “الترقب” و”التوجس” من التعرض للمصير نفسه الذي تتعرض له الجماعة وأعضاؤها، والنظام مجتهد كبير في رفع “فزاعة الجماعة” في وجه الكل، وما يقدر الكل أن يثبت في وجه الحق ليقول كلمة “الحق” في وجه السلطان الجائر، والمرء مجبول على كل حال على الأخذ بأسباب النجاة رجاء السلامة في البدن حالا، أو رجاء الغنيمة مآلا.

خامسا: لقد كانت للتراكمات التاريخية في المجال العربي الإسلامي التي خلفها حكم السيف وقيام الأنظمة التسلطية نتائجها الوخيمة على الإرادات التحررية بنشوء دين الانقياد للحاكم المتغلب، وعلى تفتت الشخصية الإسلامية بتمزق القلب والعقل والسلوك، وعلى البنى الفكرية بانحسار دوائر التجديد وتمكن “الفقه الجامد”. وستزداد تلكم النتائج الوخيمة بفعل الاستعمار والتدخل الأجنبي في بلاد المسلمين، ومع نجم عن ذلك من “نحلة الغالب” والانبهار ب”تقدم” الغرب أو الشرق، ونشأة دين “العقلانية” و”الحداثة” و”الديموقراطية”. وطبعا لن يتولد عن هذا الوصل النكد بين حكم السيف الداخلي، وحكم الاستكبار الأجنبي إلا التأسيس لأنماط تفكيرية وسلوكية ستحتاج لجهد قوي ووقت كبير للتخلص من وطأة تلكم التراكمات حتى تفهم معنى “التجديد” الذي تتقدم به جماعة العدل والإحسان في الفكر الإسلامي والإنساني، و تدرك حجم الطموح الذي ترفعه الجماعة في رساليتها الدعوية لبناء الإنسان وتشييد العمران خاصة في ظل واقع محلي وناظم عالمي لا يسمحان بأي تفكير خارج شروط الفتنة الجاثمة على العالم بكل أنواع الظلم واليأس والعبث.

سادسا: يمكن الحديث عن بعض الإشكالات التي تعوق التعرف على جماعة العدل والإحسان، والتي ترتبط أساسا بشروط البحث العلمي الغائبة عندنا بغياب البحث العلمي وآلياته المنصفة والموضوعية، ومنها  ظاهرة “الوجبات الثقافية السريعة” التي تجعل من الجرائد الصفراء، وإذاعة الشائعات، وتلفزة الواقع الافتراضي مرجعيات مصدرية تستقى منها معرفة الجماعة. كما يمكن التوقف عند هذا “الكسل” الذاتي عن بذل الجهد العملي لتحصيل المعرفة العلمية من مظانها الأصلية؛ بالتقول على الجماعة، والذي يلبس أحيانا سمة “الأكاديمية”، فتُصدَر الأحكام، وتُبنَى الخلاصات والاستنتاجات بناء على قراءة مبتسرة غير محيطة بكتب الجماعة وإصدارتها ومؤلفاتها المنشورة والمتوفرة، وهو شيء لا يقبله منطق العقل فكيف بمنطق البحث العلمي المنصف؟ ولربما يبحث “دارس” يزعم لنفسه “التحقيق” عن هواجسه الذاتية هو ليسقطها على الجماعة لفهم فكرها وسلوكها، وقد تحضر مواقف “التعالم” فيُملَى على الجماعة ما عليها فعله وما كان عليها تجنبه، ولعمري إن هذا كله لَمِمَّا يَبْعُد بالمرء عن شعارات الموضوعية والنزاهة، ويُسقِط في الاستنقاص من عقول الناس والحط من قدرهم.

إن سطوة القوالب الجاهزة، وسطوة الامتلاء الفكري والمنهجي والثقافي، وسطوة الامتلاء التاريخي بالماضي المجيد، وسطوة الظلم المخزني والتسلط الجبري، وسطوة الإرث التاريخي والفكري والثقافي العام، وسطوة الانحراف عن جادة البحث العلمي  الموضوعي المنصف، عناصر كبرى تسقط في توليد عدد ضخم من الأحكام الجاهزة، والأفكار القبلية التي تذاع هنا أو هناك، والتي ترمي جماعة العدل والإحسان بتهم كثيرة تسائل الجماعة في أمور من قبيل: العلاقة مع الأستاذ عبد السلام ياسين ومسألة التقديس، وهوية الجماعة ومواقفها السياسية العامة، ومشروعها التربوي والمجتمعي، ونظرتها للديموقراطية والعقلانية والحداثة، وموقفها من المرأة والحريات، وغير ذلك من القضايا المتعددة التي تحتاج إلى فضاء من الحرية للتداول حولها، وبذل مزيد من الجهد والتواصل لتقريب الفهم في شأنها.

يبقى أن من الثمرات التي يمكن أن نجنيها من النظرات أعلاه، ما يلي:

– لا تسعى جماعة العدل والإحسان إلى تنميط الناس، ولا تسعى لفرض فهمها للأمور على الناس، بل كل ما تطالب به هو أن يحاول الآخر بذل الجهد ليفهمها كما هي، وكما تقول عن نفسها، وكما تقول عنها كتاباتها و تظهر سلوكاتها.

– ليس من العلمية والموضوعية والإنصاف أن يتصدى للبحث عن الجماعة من كان خليا من أدنى إواليات البحث العملي لأن كتب الجماعة موجودة، ومواقفها معروفة، ورجالاتها حية، ومواقعها مفتوحة ، والالتقاء بها ممكن من دون وسائط متحاملة أو مشوهة.

– إن جماعة العدل والإحسان تفهم حجم التأثير الذي يمارسه التاريخ الماضي والقريب والضغط المخزني والإرث الثقافي العام على الفهوم والإرادات، وتتفهم أن هناك أمورا ستحتاج لبعض أو كثير من الوقت لتتضح، لكن الذي ترغبه هو: إن لم يستطع المرء قول الحق كاملا، فليقل بعضه، وإن لم يقدر فلا يقولن باطلا.

وخلاصة الأمر، إنه لا يمكن بمنطق الإقصاء أو التغييب أو الإعراض حجب شمس العدل والإحسان؛ إذ هي موجودة قائمة حاضرة باعتراف الخصم قبل الصديق، وهي عنصر قوة للبلد. وإن بناء مغرب للجميع  ممكن  متى صفت النية، واتسعت الحويلصة، وترفعت السلوكات عن الحسابات السياسوية الضيقة، وفوتت الفرصة على الدولة المتسلطة، ونظر إلى واقع البلاد وحاجتها إلى كل أبنائها.