نظرة الوداع !

Cover Image for نظرة الوداع !
نشر بتاريخ

سيدي رسول الله صلوات ربي وسلامه عليك.

أتَذْكُر يوم كان الصحابة رضوان الله عليهم على موعد مع لحظة فائقة الجمال لِما كساها من نور انبهرت به عيون الأرواح قبل الأشباح. كانوا في صلاة، فلما رأوك فُتِنوا بجمال طلعتك حتى تحركت صفوفهم وهُمْ مَنْ هُمْ في ميزان الرجال، يَؤُمُّهم حبيبك سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، يَؤُمُّ قلوبهم الملتاعة بغيابك، يَؤُمُّ أشواقهم، يَؤُمُّ دموعهم الحزينة.

تطل من ستارة غرفتك فتسفر عن ابتسامة كأنها وهج النور، أَنَّى لقلب رآك ألاَّ يعشق جمالك، سيدي يا رسول الله، ومَنْ للمحجوب غير رحمة الله تبرد عنه وجع البعد، رحماك يا الله بالمحبين وقد استنزفهم البوح تلو البوح. ما على العاشق ملام وهو يستعجل الوصال. 

الرحمة المهداة رحم القلوب المنفطرة كمدا والأكباد المتفتتة حسرة عن عدم رؤيته فكانت نظرته بَلْسَما، كل ما فيهم ينادي هَلُمَّ إلينا يا حبيبي يا رسول الله، اشتقنا إلى إطلالة عينيك الشريفتين وإلى ابتسامة ثغرك الشريف وإلى مشيتك الفريدة، اشتقنا إلى بحة صوتك الشريف، اشتقنا إلى حضن قلبك الشريف، إلى لمسة كف ألين من الحرير تبرد عذاب الفراق.

كانوا وهم يمسون أو يصبحون يتنسمون عطر نبوته فتطيب لهم الأرض وما تظلها من سماء، يقتفون أثر الخطى يلتمسون بركة الوصل. إذا جالسوه كأن على رؤوسهم الطير يتلقفون كل كلمة منه بشغاف قلوبهم، اشترى الله منهم أموالهم وأنفسهم ليلحقوا بمحبوبهم غير مبدلين ولا مغيرين وقد تاقت أرواحهم إلى صحبة روحه الشريفة.

انتقل إلى جوار ربه وانتقلت معه أفئدتهم، فما عادت لهم قوة على البعد، وبقيت أشباحهم تقاوم في صمت النهار وبوح الليل. ما أذَّن بعدها سيدنا بلال رضي الله عنه، فقد انهزمت قواه أمام اسم الحبيب لِما يلتهب في قلبه من الشوق. كيف يذكر اسمه الشريف ثم تنجمع أشلاؤه؟ حتى سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه تبعثرت منه الكلمات وهو يفجع بموت الحبيب فيحمل سيف محبته يشهره في وجه كل من يحاول إطفاء حضور الجسد الشريف؛ أهي ساعة فراق أبدي؟ كيف لي أن أتحمل العيش بعيدا عنك؟  أما حِبُّ الحبيب سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلا أعمق من حزن دفنه في جوانحه ولا أشد من وجع كتمه بين أضلعه، ولسان حاله كأنه يقول: أأبكيك وأنا الذي وهبتك كلي، حتى نبض قلبي جعلته يوازي نبضك، تكفيني راحتك لأرتاح، ويكفيني شبعك لأشبع، وكلما شربتَ ارتويتُ، جعلتُ روحي فداك، وهبتك مالي وولدي وكل ما بين يدي، ولولا أني وُلِّيت أمر أمتك من بعدك لجلست عند قبرك أبكي فراقك العمر كله.

هكذا هو العشق؛ ظمأ يصيب قلوبا لن يرويَها إلا وصال السماء. غير أنه لا تحبس الصلةَ برازخُ الموت.

الصحابة رضوان الله عليهم كانوا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ورثوا من حضرة جنابه الشريف الحب فأحسنوا، وورَّثوا الحب لمن بعدهم فطويت بالشوق طرق ما كانت لتُطوى لولا أن طواها الله. 

سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه، أجمعت على حبه كل القلوب، ولكل منا عنده نصيب، فلله در قلبه الشريف وقد اتسع في حبه لجميع خلق الله!