تمهيد:
هذه نظرات بدا لنا أن نسوقها للنقاش عشية احتفاء العالم بالعيد الأممي للمرأة، وإن كنا نرى أن أيام العام والزمان كلها هي عيد للمرأة، زعيمة القارة العظمى -قارة الأسرة- في احتضان الإنسان، وبانية الأجيال، وصانعة المستقبل في محاضنها الأساسية التي تنبعث منها الأجيال المختلفة خارجة إلى دنيا الناس.
هذه، طبعا، هي الصورة المأمولة المقصودة، ولا تسأل بعد عن واقع الاستضعاف المسلط على المرأة والقهر النازل بها وما يتولد عن ذلك من ضعف واستقالة عامة عن أداء الوظائف القمينة بتبوئها المكانة اللائقة بالمخلوق الذي به اكتمل النوع الإنساني وتحقق عمران الأرض اعتمادا على مبادئ التعاون والتكامل مع الرجل الصنو الآخر المخلوق.
آفات:
لعل عرض قضية المرأة عرضا منصفا لن يتأتى إلا بتجاوز ثلاثة آفات:
– آفة التجزيء التي تعزل واقع المرأة ومشاكلها عن الواقع الكلي الذي تحياه المنظومة المجتمعية، مما يضيع الرؤية الشمولية والعلاقات السببية المتشابكة المعقدة التي تجعل الوضع المتردي للمرأة من جنس التردي العام للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتعليمي.
– آفة النظرة الصراعية التي تضع المرأة وقضاياها في مقابل النقيض للرجل وقضاياه، فتبني رؤى “نسوانية” تصارع طواحين عقليات “ذكورية” تزيد المقسم من العلاقات المجتمعية تقسيما والمشتت أصلا منها شتاتا وشتيتا.
– آفة انحباس الفقه في النظرة إلى المرأة، والتي تسقط في حبس المرأة في دوائر ضيقة من الفاعلية الإنسانية قد لا تتجاوز البيت والقبر مستندة في ذلك على نهج يسد ذرائع هي وليدة أزمنة توقف فيها العقل المسلم بفعل تسلط السلطان ومفارقة القرآن.
– آفة الانبهار بالحضارة الغالبة التي لا تكاد تتصور تحريرا للمرأة ونهوضا بها إلا من زاوية المثال الذي يقدمه السيد الغالب المتقدم المسيطر.
وعن هذه الآفات مجتمعة متآلفة متداخلة تتولد أمراض النظرة الدونية للمرأة التي تضعها رهن استعلاء الرجل وسطوته، وكذا أمراض التفكك النفسي والعقلي والسلوكي الناجمة عن ضياع الوجهة بين هوية مفقودة وبين حداثة مرغوبة قاتلة مرعبة.
آليات:
يتطلب تجاوز تلكم الآفات التسلح بثلاث آليات:
– الوعي التاريخي الذي يقرأ ما وقع للمرأة ضمن آثار صدمتي الانكسار التاريخي والاستعمار التغريبي، وفعلهما العميق في صناعة المرأة الجارية المغنية المحظية في القصور كما مهملا معزولا غثاء، وتسويق صورة المرأة الإشهار الإعلان المعروضة في أزقة العري العالمية جسما ممسوخا وروحا تائهة ضائعة، فيتحقق الوعي بأصل الداء ومكمن البلاء، وتتغير النظرة الصراعية في العلاقة بين الرجل والمرأة لكونهما معا نتيجة حتمية لفعل تربية دين الانقياد ونحلة الغالب.
– الوعي القيمي الحضاري الذي يرى من وراء سجف الصورة المصنوعة المبهرة للمرأة إفلاسا واقعا للنموذج الغربي قيميا بضياع معنى الترابط الأسري وسيادة معاني التشييء والاستيلاب، فتعي المرأة إذاك أن رقيها وتقدمها لا يمكن أن يتحققا إلا من خلال قيم هويتها الحضارية المثلى التي جعلتها كائنا حيا شقيقة للرجل مساوية له من زاوية التكليف الشرعي والجزاء المترتب عنه، فتزول بذاك غشاوة ما يسوقه العالم المسيطر من صور براقة هي السراب واليباب.
– الوعي التجديدي القائم على الاجتهاد الذي يقطع مع عقلية الفقه المنحبس، وعقلية التحرر المنفلت السائب، عبر التأسيس لتجديد إيماني يقرأ آيات التكليف الشرعي النسائي وأحاديث الإكرام النبوي، ويقرأ الإسهام المهم للمرأة في الفعل البنائي العام للمجتمع الإسلامي في تقدمه وحضارته التاريخية العريقة، ثم يستحضر هذا الوعي التجديدي واقع المرأة الحالي وأسبابه ونتائجه وتفرعاته، كل هذا في بوثقة جامعة منشئة لتصور تستعيد به المرأة وظائفها البنائية في جهاد جماعي متكامل.
بهذه الآليات نرتفع في قراءتنا لوضعية المرأة عن التحليلات الذرية، والنظرات التجزيئية، والمواقف الصراعية، لنفتح أفق التصور التجديدي المستقبلي المؤصل المجتهد التنويري.
وظائف:
ينبغي أن يقودنا فهمنا لحقيقة وضع المرأة منظورا إليه في أسباب ترديه التاريخي والفقهي والسياسي، إلى أن تؤدي المرأة ثلاث وظائف أساسية:
– الكمال الإيماني الساعي لاكتساب معنى الوجود معرفة بالله وتشوفا لما عنده ترقيا في مدراج الدين، وتشبعا بشعب الإيمان في صحبة صالحة وجماعة مجاهدة، بهذا تعي المرأة وجودها وتعرف غاية كينونتها وتكتسب الحافز الدافع لصياغة شخصيتها والمحرك لفعلها وقيامها بوظائفها.
– الكمال العلمي بمزاحمة الرجال في جهاد التعلم والتعليم لتكون المرأة المدرسة التي إن أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق والأخلاق، بدءا بالعلم الحق علم الوحي، وانتهاء بالعلوم النافعة الرافعة لصيانة الفطرة ومقاومة الغزو الفكري والنفسي.
– البرج الاستراتيجي الجامع بين صناعة الأجيال وبناء الأمة، باحتضان الطفل محبة وعطفا، وصحبة الزوج رحمة وتواددا، وبالحرص على العلاقات الأسرية العامة صلة وخدمة، تنبني الصحبة الصالحة المقيمة عوج الغثائية الإنجابية. ثم بالدعوة في صفوف الرفيقات والصويحبات وداخل فضاء المؤسسة التعليمية وفي منتديات التجمعات النسائية تدل المرأة على الله وتنصر دين الله.
وسبيل هذا كله انتهاج مسلك تربوي متوازن يحافظ بين واجبات البيت ومسؤولية الدعوة ويرعى خصوصية المرأة التي تكاد تعمل النظرة “النسوانية” على تغييب سماتها النوعية، مما يسقطها في نزاع أبدي مع الرجل الذي يفترض فيه أن يكون الشريك المكمل لا الشريك المشاكش.
خاتمة:
إن الدراسة المتأنية للفوارق البينة بين ثلاث لحظات تاريخية مسلك مهم في انبعاث إرادة قوية لمعالجة قضية المرأة معالجة سليمة، لحظة الفقه المنحبس العاض على المرأة بسدود الذرائع المعتقلة المقيدة، ولحظة العقلانية الحداثية المحررة من قيود سؤال المعنى الصامتة عن قلاقل الموت المصيري، ثم لحظة التنوير الحاملة مشروع إسماع الفطرة للإنسان كل الإنسان بعين البصيرة الواثقة المتيقنة، وبعقل الحكمة الراشدة، وقلب الرحمة الرفيقة، وبالإرادة الحرة المتوثبة.
بوعينا لتسلط السلطان على القرآن، وبإدراكنا لطاحونة التغريب والتلييك (من اللائكية)، وبانفتاحنا على المنهاج النبوي المؤسس للشخصية الإسلامية الكاملة يمكن أن نصوغ مشروعا لما يجب أن تكون عليه المرأة في قلب المشروع التغييري العام الذي يرد الكائن البشري إلى لحظة الصفاء الروحي ليدرك من هو في فطرته؟ ولم هو في هويته؟ وإلى أين هو صائر في مسيرته؟