على فراش المرض الذي طال وهد الجسد الفاني، فلا حياة تحلو بجسم واهن عاجز، ولا شهية للإقبال على مفاتنها، مر الشريط مسرعا مستعرضا لحظات كنت أركض لاهثا وراء تحقيق الذات، أخذتني أمواج الحياة العاتية إلى جزر بلا ساحل أو مرفإ ترسو عليه مطامحي ولذَّاتي، من إنجاز إلى آخر ومن أمنية إلى حلم، فمنافسة شريفة أو غير شريفة، لا يهم، المهم أن يشار إليّ بالبنان، وترصّع هامتي بالتيجان، ويتقلد عنقي ميداليات، ويزين صدري بالنياشين، نشوة الانتصار والتتويج تسكرني حتى الثمالة، فأهيم في عالم مَلكني، فهو يخدعني لأنه يرفعني فوق البشر، فأنا “أنا” هنا أحقق النصر تلو النصر، بجهدي وتدبيري وعقلي العبقري الفذ.
شريط مفعم بفرح ونشوة، تشوبها حسرة وحرقة في القلب دامية، أتجاهل مأتاها، وأغض الطرف عن مغزاها، وأنا الخبير بنفسي وشيطانها وهواها. في غمرة الأحداث التي عرضها الشريط السريع تراءت أسرتي وأهلي وعائلتي، وعلى وسادة الحنان والدفء بدت يدا أمي الحانية، لطالما قبلتهما وأنا بعدُ حديث عهد بفطرتي الطاهرة النقية، لقد نسيت شفتاي هاتين اليدين الحانيتين، في غمرة النجاحات والمنافسات وحتى الإخفاقات، حيث دحرتني الفتن بعيدا عن رحمة والدتي وعطفها، ودفء صدرها، ولين ملمس يدها وجبينها.
آه كم غصة الآن في قلبها! كم جرح غائر في صدرها! كم وكم ضيعت من فرص للجلوس تحت جنتها! يا ويلتي أإلى هذا الحد أخذتني أنانيتي! أية خيبة أصابتني! سأموت ويفنى جسدي الممجد المبجل بالميداليات والأوسمة، سأموت وروحي محطمة ممزقة جاحدة، لقد قطعت علاقتي بأمي وأهلي وأسرتي، وانفصلت صلتي بقلبي، بعدما مزقت نياطه، فأنا غريب عنِّي.
تتعالى آهات الوجع والألم الذي يفتك بهذا الجسد المتهاوي على فراش الضعف والعجز والمرض، وتشتد حرقة الفؤاد النادم صاحبه على ما فرط، ويغيب العقل المسَهَّد أخيرا بعد أن هدَّه الأرق، وخارت قواه أمام الضمير الذي أنعشه المرض وأحياه الضعف.
سافر العقل المعذب في زمن أضناه تقليب أوراقه التي كشفت بُعدَه عن الغاية والقصد من خلق الله للناس أجمعين، بعدما عظمت الدنيا في قلبي، وتشربتها نفسي، فتناسيت كل القيم الراقية، والعلاقات الإنسانية، ورجحتُ كفة الذات الأنانية.
لم يدم هذا السفر طويلا، فالألم يعتصر قلبي، والوجع يضنيني، والحمى أبت أن تفارق هذا الجسد السقيم، كأنها تطهره بلهيبها من أدرانه، لعل الروح تعرج إلى عالم علوي تصفو فيه وترتاح.
فتحت عينيّ بمشقة بالغة، فإذا بها جالسة بجانبي تتأملني في رجاء ولهفة، وجهها شاحب، لكن في جبينها نور يبعث الحياة في العظام وهي رميم، رغبت في النهوض كي أعانقها وألثم يدها، لكن جسدي لم يسعفني، مازال واهنا ملتصقا بالأرض، فبادرتْ هيَ بالسلام والتحية:
– السلام عليكم ورحمه الله، طال الغياب، فهل إلى رجوع من سبيل؟
نظرت إليها بخجل وحياء، وددت الكلام، فخرجت من فِي كلمات بصوت مبحوح به حشرجة، وانطلقت دموع العين من عقالها، وتابعت هي الكلام بلا استئذان:
– لطالما انتظرتك، لم تغب لحظة عني، كنت موقنة أنك ستعود يوما ما، هي غفلة، لكنك ستعود حتما.
لم تسعفني الكلمات، ولم أقو على الرد، فبم سأبرر هذا الجحود المخزي؟ بما سأفسر هذا التنائي والعصيان؟ ماذا عساي أقول؟ لقد عصت الكلمات وسجنت حروفها، خجلا من تدبيج جمل لا محل لها من الإعراب في أبواب التفسير والتبرير الكاذب، حاولت جاهدا أن أتفوه بأي كلام، المهم أن أفصح عما يكتم أنفاسي ويبرّح جراحي، فما عاد للسكوت والهروب من معنى، ها قد انكشفت عورة المستور، وانزاح حجاب الهوى، وتنفست الروح الصعداء، بعدما توارت النفس الغافلة اللاهية مستسلمة للعجز والوهن الذي هد الجسد، لكن مع ذلك حاولت، فتساءلت:
– هل جئت لعيادتي؟ من أخبرك أنني مريض؟ تعودينني رغم جحودي وبعادي الطويل.
تخنقني العبرات مرة أخرى ويتثاقل جفناي، فلا يعلوان لفسح المجال للنظر في الزائرة الطيبة.
ولأنها عائدتي في مرض، وآملة رجوعي إليها بقوة وثبات، أستمد قوتي من دفئها وحرارتها التي تقوي مناعتي ضد الغفلة عن الله والتيه في دنياي، حاولت أن تمد لي يد العون، فتغتنم فرصة صحوة الضمير، وصفاء القلب، وانكشاف الفطرة السليمة، لتسمو بروحي نحو المعالي، فتواصل الحوار بحكمة بالغة، وعطف متناه، ويقين ثابت:
– جئتك اليوم، بعدما كشفت روحك المسجونة وراء قضبان نفسك التي أَسِرتْك، وملكت مفاتيح قلبكَ، فتواريْتَ عن دربي، فمن وراء قضبان سجنها الزائل بدا لي هذا الصفاء المطمور لزمن تحت ركام سفاسف الدنيا الفانية، بحثت فيك عن ذلك الطفل الذي توطدت علاقتي به منذ تعلَّمَ الكلام، ووقف على قدميه، فكانت أولى خطواته بحرارة وحماس تجاه القبلة، مقلدا الكبار، محاكيا أقوالهم، مهتديا بأفعالهم، حتى ترسخ في قلبه نور الصلة والوصل بمولاه، فما كان يفرط في وقت من الأوقات حتى شب. لقد ارتبط مكان سجودك بك في مسجد الحي، جماد أحياه دعاؤك وخشوعك وتبتلك، كل جنبات المسجد تذكرك، بخطواتك الوئيدة، أو صوتك الخافت وأنت تتلو القرآن، أو بكائك خشوعا لتلاوة آية وأنت خلف الإمام، فلما غبت افتقدك رواد المسجد من المصلين، وكذا الحيطان والجدران وسجادات الصلاة.
لقد طال بعادك حتى نسيك الجميع إلا أنا، لم أنس قلب ذلك الطفل الصغير البريء، كنت أسمع دقاته المسبحة بحمد ربها، المحبة له، الراجية القبول، فانقطع صدى الصوت منذ زمان، لكن في هذه الأيام عاد صداه يتردد قويا، يطرق بابي طالبا النجدة، راجيا الرجوع والعودة…
لم تكمل كلامها بعدُ، حتى عم صوت بكائي المكان، يمزق كبدي، وتلاشت في خضمه كل الدنيا الفانية، وسمتْ نحو الأفق روح صافية محلقة تبحث عن قبول بعد أوبة، فعَلا صوتي المرتج في الفضاء:
– إلهي! هل إلى رجوع من سبيل؟ رباه! تقبل عبدا آبقا أنكر الجميل، وتاه في أزقة الدنيا الضيقة، ومنعرجاتها الفجة، فحُجب عنه نور سماء المحبة والوصال مع ذي الجلال. إلهي! إلهي! من لي بفرصة ثانية، فروحي ترفرف في صدري راجية العروج إلى سعة رحمتك، وفيض حبك، وجمال قربك، يا غفار هل تقبلني؟
تابعت الضيفة الكلام، حول حدسها الذي أكد لها عودة الطفل الشاب الآن، بعد غياب دام سنين، راجعا إلى الصفاء بيقين، فالرجوع مصير كل ذي أصل طيب، وقلب سليم:
– لو لم يكن لرجوعك من سبيل، لما كنت الآن أعودك، مادَّة إليك يد العون والنصير، القلب الطاهر يعود له صفاؤه ولو بعد حين، وأنا الآن في انتظار جبينك الذي يحضنني وأحضنه، وفي انتظار ركوعك وسجودك، وفي شوق لسماع آي القرآن من صوتك الشجي الحزين، ما جئت لأرجع خالية الوفاض، ولكن قلبك ناداني، وروحك حلقت في جنباتي، فلبيت النداء، وكلي شوق وحنين لوصل قريب بينك وبين خالق الإنسان، وسأكون سعيدة به لأنني معراج روحك إلى حضرة الكريم الرحمن.
انشرح صدري فجأة، وزال همي وغمي، وخف حزني وألمي، وأشرقت في عيني بارقة الفرح بالعودة إلى حضن الغفور المنان. التفت فلم أجدها، لكن وجدت سجادة للصلاة، فتيممت صعيدا طيبا، وهرعت تجاه القبلة، أحمل بين ضلوعي لهفة وشوقا وحبا وفيضا، جاد به علي خالقي، فكان إشعارا بالقبول.
كبرت تكبيرة الإحرام، صغرت معها الدنيا، وفنيت زخارفها، وسرت مع عروقي قشعريرة، وكأنها صلاتي الأولى، وكأني في روضة الجنان أتهيأ للقاء الحي الرحيم المنان:
– الله أكبر، الله أكبر.