معالم في السلوك إلى الله تعالى 4

Cover Image for معالم في السلوك إلى الله تعالى 4
نشر بتاريخ

الذكر

إن توتر القلب شوقا إلى الله عز وجل يبقى أماني جميلة إن لم يصحبه توتر العقل لمعرفة ما شرعه الله عز وجل لعباده وما أمر به في كتابه العزيز وما بلغه وبينه رسوله الكريم في سنته العملية والقولية.

يبقى أماني جميلة عقيمة إن لم يكن للإرادة توتر وتلهف وصبر على قطع مراحل الطريق. ذلك أن بين ما يشتاق إليه القلب وبين مواقع أقدام العبد عقبات لا بد أن يقتحمها مع الصاحب الدليل وإخوة “تعال بنا نؤمن ساعة” ولا بد من دوام ذكر الله وذكر لقائه حتى لا تزل قدم في مهاوي الشيطان الرجيم الذي لعنه الله عز وجل فأقسم قائلا: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.

وبالذكر، ذكر لقاء الله عز وجل ذكر لسان وتذكر قلب، يستعين السالك على تحصيل مقامات الصادقين المخلصين.

ولذكر الله أكبر:

إن الرسول المبلغ الشاهد بيننا يتلقى من الله عز وجل أمرا مؤكدا لا تنفصل فيه تلاوة القرآن عن تطبيق ما أوحي به، قال عز من قائل: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

ونتلو نحن الأمة المرحومة ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونسمع ونطيع فنقيم الصلاة لتنهانا عن الفحشاء والمنكر ونعكف على باب كرمه سبحانه وتعالى ذاكرين صفاته العلية، لساننا رطب بذكر الله وقلوبنا خاشعة تلين وتطمئن بذكر الله أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ

نذكر الله تعالى على كل أحوالنا كما كان يذكره صلى الله عليه وسلم وبالصيغ الكريمات المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم.

وللذكر أوقات ومواسم خصها الله عز وجل لنا تخصيصا فيقول عن الصلاة: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

وعن الذكر بعد الصيام يقول تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وإثر مناسك الحج يتعين ذكر الله شكرا له عز جنابه على ما وفقنا إليه أن قضينا مناسكنا وهدانا لذلك، ومن الناس من هم تائهون في الضلالات اختصنا الله من بينهم بفضله فحق علينا أن نذكره شكرا وعرفانا بما قدر وهدى، قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ. ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إلى أن قال سبحانه: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ.

والحج جهاد من أشرف الجهاد، كله للذكر وبالذكر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، ورمي الجمرات لإقامة ذكر الله”.

ويقف القارئ على كلمة قيمة لابن القيم رحمه الله جميلة نختم بها هذا المطلب، قال: الذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل، ومن مُنِعَه عُزِل. وهو قوت قلوب القوم التي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا، وعمارةُ ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بُوراً. وهو سلاحهم الذي به يقاتلون قطّاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست فيهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب).

تجديد الإيمان بقول لا إله إلا الله:

لا شك أن ذكر الله والمواظبة عليه قوت القلوب، بها يتغذى الإيمان وينمو وتزدهر عافيته وتصح قوته فإن فتر فاتر عن ذكر الله أصاب إيمانه ما يشبه ذبول الأجسام و ضعفها حتى تصبح كأنها شن بال، لا حيوية فيه ولا غناء منه.

وهكذا يشبه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم تقادم الإيمان وتلاشيه وبلاه وضعفه حين لا تغذوه مغذيات الذكر بعناصر القوة والشباب، ببلى الأجسام وتهاوي قوتها واختلال مبانيها حتى ندرك قيمة غذاء الإيمان ونهضة الإيمان، كما ينشط الجسم الواهي القوة الجائع الذاوي حين ينعشه زاد غذائي مما تنبت الأرض وما يرزقنا الله من بهيمة الأنعام، من لحومها وألبانها.

ذلك ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثله لنا في أحاديث تشخص لنا الداء والدواء، خليق بنا أن نتأملها لنستبين سبيل العافية من بلايا البلى، بلى الإيمان.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الإيمان يخلُق (أي يَبْلى) كما يخلُق الثوب، فجددوا إيمانكم”. وفي رواية:” إن الإيمان ليخلُق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم”.

قال حنظلة بن الربيع: “كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر النار. ثم جئت إلى البيت، فضاحكت الصبيان، ولاعبت المرأة، فخرجت فلقيت أبا بكر، فذكرت ذلك له. فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر. فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة؟ فقال: مه! فحدثته بالحديث فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل فقال: “يا حنظلة! ساعةً وساعةً! لو كانت قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق”.

عن عمرو بن الجموح أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يُحِقُّ العبد حقَّ صريح الإيمان حتى يحب لله تعالى ويُبغض لله. فإذا أحب لله تبارك وتعالى وأبغض لله تبارك وتعالى فقد استحق الولاء من الله. وإنَّ أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يُذكرون بذكري وأُذْكَرُ بذكرهم”.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينَها”.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “جددوا إيمانكم! “قيل: يا رسول الله! وكيف نجدد إيماننا؟” قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله”.

وهكذا شخص لنا النبي صلى الله علي وسلم الداء وهو بلى الإيمان وموطن الداء وهو نفس المؤمن وقلبه وكيانه الروحي.

والوصفة الشافية بإذن الله هي الكلمة الطيبة لا إله إلا الله إن نحن أخذناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدق وثقة كما بلغنا العلماء الأجلاء جهابذة الحديث رحمهم الله وجزاهم عنا خيرا في مثل ما رواه الشيخان وأحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الإيمان بضع وسبعون شعبة”– عند البخاري وأحمد بضع وستون-” فأعلاها “-في رواية أحمد” فأرفعها وأعلاها”” قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان”.

إلى قول لا إله إلا الله دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله”. وقال لعمه أبي طالب وهو على فراش الموت: “يا عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله” وقال: “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة”.

ويكون تأثيرها أوثق وأنجع إن كان مع الذكر صحبة واقتداء عالم من أهل الاختصاص يتعرض قلبنا لفيوضات قلبه وتغرف روحانيتنا من روحانيته.

إنها الكلمة الطيبة ” لا إله إلا الله” التي اعتبرها بعض المتنطعين ممن طغت الفكر المتفلسفة على عقولهم فغيبت عنهم المعاني القلبية التي عليها مدار صحة العقيدة ومنها بدايتها.

ويومن المقتدي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا إله إلا الله تحمل في طيها سرا فعالا به تتفجر في القلوب ينابيع الإيمان يتخذها المومن هجيراه لا يمل من تكرارها، رطبا بها لسانه كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لأعرابي سأله أن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: “لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل”.

كلمة هي أفضل الذكر وأعلى شعب الإيمان وأرفعُها،لا يزهد في الاستهتار بها إلا محروم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا إله إلا الله أفضل الذكر، وهي أفضل الحسنات”. وقال: “أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله”. رواه ابن ماجة والنسائي وغيرهما، وأخرج أحمد عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! أوصني!) قال: “إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها” قال: قلت: يا رسول الله! أمن الحسنات لا إله إلا الله؟) قال: “هي أفضل الحسنات”.

إنها وصايا إن رماها بعضهم ظهريا أو استهان بعضهم بأهميتها ومحوريتها في عملية التزكي فإن كبار العارفين بالله يقفون عندها وقفة تقدير وإجلال موقنين أن رفع الدرجات عند الله إنما مبدؤها ومنتهاها ومعادها التصديق بالوصايا النبوية الشريفة.

هذا الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله يكتب: إذا تَرَقَّتْ درجة العبد من الإسلام إلى الإيمان، من الإيمان إلى الإيقان، من الإيقان إلى المعرفة، من المعرفة إلى العلم، من العلم إلى المحبة، من المحبة إلى المحبوبية، من طلبيته إلى مطلوبيته، فحينئذ إذا غفل لم يُتْرَكْ، وإذا نسي ذُكِّر، وإذا نام نُبِّهَ، وإذا غفل أوقظ، وإذا ولّى أقبَل، وإذا سَكَتَ نَطَق. فلا يزال أبدا مستيقظا صافيا، لأنه قد صفت آنية قلبه. يُرى من ظاهرها باطنُها. ورث اليقظة من نبيه صلى الله عليه وسلم، كانت تنام عينه ولا ينام قلبه، وكان يرى من ورائه كما يرى من أمامه. كل أحد يقظته على قدر حاله. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يصل أحد إلى يقظته، ولا يقدر أن يشاركه أحد في خصائصه. غير أن الأبدال والأولياء من أمّته يردون على بقايا طعامه وشرابه، يُعطون قطرة من بحار مقاماته، وذَرَّة من جبال كراماته، لأنهم وراءَه، المتمسكون بدينه، الناصرون له، الدالّون عليه، الناشرون لعَلَم دينه وشرعه. عليهم سلام الله وتحياتُه، وعلى الوارثين له إلى يوم القيامة).

مثل هذا التقدير وهذا الإجلال نقرأه عند الإمام الرفاعي رحمه الله في قوله: عليكم، أي سادة!، بذكر الله. فإن الذكر مغناطيس الوَصل، وحبل القرب. من ذكر الله طاب بالله، ومن طاب بالله وصل إلى الله. ذِكْر الله يثبت في القلب ببركة الصحبة).

ذلك أن المربين العارفين بالله يقدرون ذكر الله حق قدره فهم على نور من ربهم يعلمون وينصحون أن بذكر الله تطمئن القلوب.

ذلك ما عبر عنه رحمه الله قال: “أيْ سادةُ! قال أهل الله رضي الله عنهم: من ذكر الله فهو على نور من ربه، وعلى طمأنينة من قلبه، وعلى سلامة من عدوه. وقالوا ذكر الله طعام الروح، والثناء عليه تعالى تُرابها، والحياء منه لباسها. وقالوا: ما تنعَّم المتنعمون بمثل أنسه، ولا تلذذ المتلذذون بمثل ذكره)

وقال: من حال المؤمن مع الله ذكرُ الله كثيرا. ومن أدب الذكر صدق العزيمة وكمال الخضوع والانكسار، والانخلاع عن الأطوار، والوقوف على قدم العبودية بالتمكن الخالص، والتدرّع بدرع الجلال. حتى إذا رأى الذاكِرَ رجل كافر أيقن أنه يذكر الله بصدقِ التجرد عن غيره. وكل من رآه هابَه، وسقط من بوارق هيبته على قلب الرائي ما يجعل هشيم خواطره الفاسدة هباء منثورا).

نلحظ أن الشيخ الرفاعي رحمه الله عندما كتب جملة وكل من رآه هابه لم يكن قصده أن يستجلب الذاكر مهابة الناس واحترامهم فذلك رياء لا يليق أن يطوف منه طائف بقلوب هؤلاء الأجلة العلماء بالله، إنما يقصد أن يكون ما ينور به الله سبحانه وتعالى الذاكرين يشع على قلب الرائي بوارق حارقة تهشم ما يتخمر في قلبه ويعيث فسادا.