الحياة معاني انبثقت من رحم الفعل الإنساني في غابر الأزمان والحقب الماضية، وما يتذكر الإنسان سوى قبسات من قيم تجسدت في ذات من كان مؤهلا لإبرازها في الواقع الإنساني… والحق أن ذاك الحامل للَبوس القيم والمبادئ أشد الناس تأثيرا فيهم، وأقوى جلبا لهم لديدنه الذي يسرح فيه، لأن ما كان في عالم التجريد من معان، وما تناوله الأصفياء والمفكرون والفلاسفة من تصورات فوقية استطاع هذا الفذ حقيقة أن ينزلها إلى ذاته، ويتقمصها بصدق لتُرى مرئية بين الناس وترى النور بينهم.
وفرق شاسع بين التحدث عن القيمة ومدارستها وبين ملامستها واقعا في ذات من اقتحم عقبات ومفاوز وتسلق مدارج الإرادات والعزائم وقوى الحزم لإظهارها في كيانه، وفي الواقع البشري.
وكثير هم الذين يتجاسرون على الاقتراب من حمى القيم والمبادئ تحدثا وفهما ودعوة، وهم لما يتشربوها في دخائلهم، ولم تنبت في كيانهم، ولم تنغرس في أوصالهم… ومن ثم فإنهم يعيشون تناقضا صارخا بين الفكر والقلب، وبين التجريد والتجسيد، فلا عجب أن تراهم أقل الناس تأثيرا عند الناس فيما يدعون إليه من التزام بتلك المبادئ التي استعصت عليهم اقتناعا وإقناعا.
ولا تظنن أن ذاك الذي تحدثنا عنه آنفا، ذاك الذي كان كتابا مجسدا للقيم والمبادئ والتصورات ومشى بها في الناس، لا تظنن أنه ارتقى إلى تلك المرتبة السامقة والغاية المنشودة من الفضل والسيادة عبثا أو هزلا، لأن ذلك مخالف لسنن الأشياء وطبيعة مجريات الأكوان، بل إنه، غالبا، تجشم المرتقى الصعب، وتخطى الصواد والصعاب التي دونها خرق القتاد، وجرى في ديدن سباق لم يسرح فيه كل دعي خمول متكاسل…
وإننا نرى أن هؤلاء الذين مارسوا فنهم غاية الممارسة، وكانوا في الذروة من الفهم الثاقب والقلب العاقل ورسوخ قدمهم في الثبات على قيمهم ومبادئهم وأوتوا نهاية الملكة، لم يكونوا كذلك إلا بتربية طرقتهم بمطارق الصياغة والتهذيب من دنس الالتصاق بأوهاق الأرض، ورجس الارتكان إلى العوائد السفلية والطباع المنسية والأهواء المردية والنزعات المَرضية.
وإذا دلفت أيها الطالب النبيه إلى رحاب أمثال هؤلاء واغترفت من مشكاتهم عبا ونهلا وانتزاعا، وصاحبتهم في تقلبات الزمن المتغير ألفيتهم كبريتا أحمر مخالفا للجم الغفير من الناس، والوفرة الكاثرة منهم وأحسست بنفاستهم وصفاء جوهرهم ونصاعة طينهم، فتمنيت أن تحذو حذوهم وتسلك طريقهم وتتبع آثارهم وتتسلق مدراجهم وتستن بسيرتهم وتتحدث عن أنبل فعالهم وأحكم أقوالهم لتكون لبنة في التعريف بهؤلاء الأصفياء والخالدين في التاريخ والخافقين عبر الدهور والزمن السحيق.
وإنه من الفرض اللازم عليك أن تتأدب بآدابهم وتحمد الله تعالى أن رماك بين أحضانهم، لأن سابقة الخير وبناء ذاتك كانت بهم ومعهم، فلا ريب أن أُس الفضل والشرف والسؤدد المسلوك إليك كان ثمرة ما بذروه فيك من أسرارهم، وما وهبوه لك من نتاجهم وتجاربهم.
والحق أن ما يقوم به طلبة (الماستر) من احتفاء بالرجل دائما، ليشي بحقيقة ناصعة جلية للعيان وهي استجلاء صفحة من صفحات الأدباء الذين تركوا أثرا منقوشا في التاريخ الأدبي المغربي، إظهارا لأفضالها وعطائها ونبوغها وكيف أنها صفحة مشرقة من شجرة الأدب، شجرة ممتدة الجذور وباسقة الأغصان بمعانقة هموم الأمة في وجه العواصف العاتية والصواعق الناسفة: انحدارا للإرادة العلمية وانتكاسا عن الأدب الرصين الرفيع الذي تلفعت الصفوة الأدبية به زمنا طويلا…
إن الوقوف على أخبار رجل من أمثال الأديب الفاضل، الحسن بوتابيا، وقراءة بعض من سيرته العلمية وفعاله السامية خير مهماز لإذكاء الهمم، وشحذ العزائم وتقويم الأخلاق بصمت وهدوء دون أمر جلي أو نهي مكشوف، لأن في ذلك تأسيا بالأجلاء، واستنانا بالعظماء واحتلالا لذرى المجد الرفيع، وتربية على التسامي إلى معالي الأمور والترفع عن سفسافها…
فالرجل حقيقة هو جبل يحبنا ونحبه، عرفناه عن كثب، ودلفنا إلى رحاب أخلاقه عن تبصر ويقين، والزمن كشاف لطباع الإنسان وعوائده ونصاعة جوهره…
عرفناه رجل الحق العلمي الذي لا يحابي أبدا أو يداهنه، لاسيما حين تكون الحقيقة العلمية بازغة لديه، وفي ذلك كله هو بعيد عن الترجيح المستديم بفعل ذاتي أو نزعة هوى، وهؤلاء هم القمم العلمية الحافظة لصروح العلم من التهاوي والسقوط…
ولا يسعني هاهنا إلا أن أنثر قبسات مما رأيته على مدى سنوات من مصاحبته والتعرف على خصاله:
– نعم لقد تميز بملكة قل نظيرها، وهي التدقيق في النتاجات العلمية شكلا ومضمونا… حتى إنه ليخيل إلى متتبعه أن الرجل مغال في توجهه العلمي… إذ كيف يعقل أن يجهد ذاته في أمور قد تبدو للمبتدئ مثلي أنها من نوافل التحرير… لكن الرجل هو ميال للطراز الجمالي وإتمام الشكل بحيث يسطع اكتمالا وبهاء…
– إن ما أذهلني فيه صبره القوي على تمحيص البحوث وغربلتها بعزم خارق وإرادة قلما تدرك، فلا ترى سوى قلة من المباني المسبوكة والمعاني المرصفة مَن جاوزت قنطرته، لتدقيقه العميق في الجزئيات والكليات، وضبطه للأبواب والفصول والمباحث والفروع… حتى النقاط الفاصلة له يد فيها، فيشعر الطالب أنه بين يدي ضمير علمي قوي لن يُتجاسر على التلاعب معه، ومن ثم فلا بد من أن يستقيم معه حتما إن اليوم أو غدا.
– ومن حيث المعاني فالرجل كما عرفته هو محيط بالأساليب والأفكار ولن يستطيع أحد أخذه في شباك الاحتيال أو تصيد الأفكار من الأرصفة المهترئة… بل إن حصافته تجعل ما يحرر الإنسان ويكتبه على بساط الغربلة والتمحيص والتدقيق الشديد الذي لا حيلة معه، وقد يصيح طالبه بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم… ذلك أنه يجعلك حمالا لأوهاق وأثقال عديدة تنوء بكاهل الكاتب المتمرس فما بالك بالمبتدئ الحابي.
– نعم إن نظره الحصيف للبحث غير مقتصر على مبناه وشكله دون اعتبار لقوة الأفكار ورصانتها، إذ بعد إتعابه الطالب في ديدن تأليف المباني يلج معه حمى التصورات وتنوعها ومبادئها ومدى تطورها عبر التاريخ الإنساني السحيق.
– إنه الصدق الساري بين جدران كلية الآداب بمراكش، وقلما يشاهد ذلك في عدة كليات، بسبب غرابة هذا الصدق العلمي وتواريه خلف جدران المحسوبية والتملق… وصدقه هذا لم يعرف انفصاما أو قطيعة بين الأمكنة، إذ تنبيهاته القاسية شاملة للزمان والمكان معا، ولكم كنت منبسطا معه في بيته نتجاذب ذيول الأحاديث، وحين أكرمني بغَذائه وكأنني فرد من عائلته، طالبني بفتح صفحات البحث المحرر، فانقلب الرجل علي وكأنه لا يعرفني وظهرت لي شخصية علمية صارمة لا تخاف في الله لومة لائم.
– وقد رأيت فيه حرصا قويا على صيانة الأمانة العلمية من أية شائبة، إذ إحالة الكلام إلى صاحبه كما هو، شعار رفعه دوما ولم أجده مشتطا غضبا إلا حينما تتداخل فهوم الطالب مع الأقوال الصرفة للكتاب.
– إن تمرسه في صناعة الأدب لم يكن هكذا عبثا، إنما هو عمره المنقضي بين الكتب، حتى إنك ترى الرجل عارفا بتنوعات الأساليب المختلفة بحيث إنه لن يخفى عليه خليطها، فضلا عن معرفته الدقيقة بجودة الكتابة وركاكتها، والحق أنه من لم يكن كاتبا حقيقة لن يسلم مع الجبل بوتابيا في نقده وتدقيقاته الغائرة في التمحيص.
ولقد رأيتني مرة ناسيا إحالة سيد قطب في صفحة من الصفحات، فانبرى لتنبيهي أن في الفقرة سيد قطب غير محال له…
– إنه مدرسة علمية في تقويم النتاج العلمي ونقده، إذ هو الصيرفي العارف النبيه بالأصيل والدخيل لا محالة.
– وكم هو ميال لتناسب الفقرات وترتيبها، وانسلاك ناظم ورابط فيها، لأن وحدة الموضوع بدت طاغية في توجيهاته وإرشاداته، ولكم دفعني لنقد التصورات المختلفة وحبك نقد لها عند خاتمة التحرير مما ينمي في الطالب ملكة الإبداع والنقد واعتبار الحقيقة الفكرية نسبية تحتمل الخطأ والصواب.
– وإذا كان بوتابيا نموذجا للصدق الواقعي والصرامة القوية في البحث العلمي، فلا عجب أن تكون الفضائل فيه جامحة، خاصة تواضعه وطيبة نفسه واحتضانه الكبير لمن يشرف عليه، بحيث إنك تحس أنك أمام أب حامل لهمومك وهادف لتنفيس كربك. وكم مرة سألني عن الأب رحمه الله تعالى حين اشتدت عليه وطأة العلة والمرض، غير باخل علي بكل ما استطاع من قوة التوجيه والتبصير بالعقبات الكأداء وكيفية اقتحامها.
– نعم لم تكن العلاقة بينه وبين الطالب صورية أو استبدادية أو قمعية أو ازدرائية، بل إنها علاقة الأديب بتلاميذه والرجل الصالح بمريديه، وهي علاقة إنسانية بحثة، مدارها الصدق وجوهرها الأخلاق السامقة.
أسأل الله تعالى أن يخلد اسمه في العلماء الأحبار الخالدين الذين ملأوا ما بين الخافقين علما وأدبا ورحمة وقوة في المبادئ والقيم النبيلة… آمين والحمد لله رب العالمين.