في الذكرى المائة “سايكس بيكو” الثانية… جراحة جديدة لتقسيم المُقسم

Cover Image for في الذكرى المائة “سايكس بيكو” الثانية… جراحة جديدة لتقسيم المُقسم
نشر بتاريخ

“سايكس بيكو” ربط الحاضر بالماضي

حلت في 16 مايو الجاري (2016) الذكرى المائة على معاهدة سايكس – بيكو المشؤومة التي وقعت بين باريس ولندن عام 1916، ويرجع أصلها إلى اجتماع بين الجنرال “مارك سايكس” مع الدبلوماسي الفرنسي “جورج بيكو” في داوننج ستريت في بريطانيا، بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، لتقسيم الشرق الأوسط فيما بين فرنسا وبريطانيا. وبموجبها جرى تقسيم الوطن العربي ما بين هتين القوتين. وشاركت روسيا القيصرية في هذه المعاهدة السرية، إلا أنها سقطت قبل أن تحظى بنصيب في تركة الإمبراطورية العثمانية. ويمر العالم العربي الآن بمرحلة من أشد مراحل الضعف، كما أن العديد من دوله تواجه حروبا داخلية ومؤامرات خارجية وتدخلات دولية، وذلك فضلا عن تردى أوضاعه الداخلية جراء الأزمات الاقتصادية وما يسمى الحرب على الإرهاب.

لكن أبرز فارق بين ما نعيشه اليوم وبين ما كان قبل قرن من الزمن، أي بين “سايكس بيكو” القديمة والجديدة يكمن في أن هذه الاتفاقية الجديدة ترسم الحدود الجديدة لدول المنطقة بدم شعوب المنطقة بعكس الاتفاقية القديمة المرسومة فقط بقلم حبر إنجليزي وفرنسي.

ومن المثير للدهشة أن العرب جرى خداعهم في المرة الأولى، كما أن أوضاع المنطقة كانت سيئة، للغاية، إلا أن الأوضاع الحالية في العالم العربي أحسن حالا مقارنة بالماضي، وذلك نظرا لأن المؤامرة واضحة، بل إن مراكز الأبحاث الغربية والصحف الأمريكية تتحدث علانية عن «سايكس – بيكو» جديدة لتصحيح أخطاء عملية التقسيم القديمة، ولا يخفي على أحد أن هناك 5 دول عربية (العراق، سوريا، ليبيا، السعودية، السودان) يجرى الحديث عن تقسيمها إلى 13 دولة! ولقد باتت «أشباح سايكس – بيكو» تخيم بقوة من أجل إعادة تقسيم المنطقة العربية إلى دويلات تقوم على الانتماءات الطائفية، دولة للمسيحيين ودولة للشيعة أو للعلويين أو السنة أو الأكراد، ما يشجع اسرائيل على اتخاذ صفة طائفية شرعية هي «الدولة اليهودية».

إن خطة الغرب في إطلاق – سايكس بيكو الجديدة تتمثل في التقسيم الطائفي وتأجيج النزاعات بين مختلف المناطق العربية، وإثارة النُعَر الطائفية في مناطق البلد الواحد: من البحرين إلى العراق والكويت والسعودية ولبنان، فضلا عن سوريا الثكلى.

سايكس بيكو 2 مخاض عسير

بعد أن تهاوت الديكتاتوريات تحت ثورات ما يسمى بـ”الربيع العربي”، الواحدة تلو الأخرى، حدث فراغ سياسي كبير ملأته الحروب الطائفية والأهلية، وانهارت المجتمعات، وتبخرت قيم التعايش، وذابت كل الأحلام بالديمقراطية والحكم الرشيد.

سورية تشهد حربا طاحنة، والعراق أصبح كيانات متعددة بهويات طائفية أو عرقية، ومصر في حالة انعدام وزن وقيادتها تتخبط، والجزائر تعيش أزمة حكم وقيادة، واليمن منقسم بين مؤيد للتدخل الخارجي السعودي ومعارض له، وبين من يريد الانفصال ومن يعارضه، أما ليبيا، فباتت بثلاثة رؤوس، وثلاث حكومات، وعشرات الميليشيات، والسودان انفصل عن مصر ليتحول إلى دولتين، وربما إلى ثلاث أو أربع في المستقبل المنظور، والمغرب مهدد بحرب انفصالية.

الأكراد الذين ظلمتهم اتفاقات سايكس بيكو، والتحالف بين مصطفي أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، والغرب المنتصر في الحرب العالمية الأولى، ربما يَخرجون الفائز الأكبر، وربما تأتي المائة الثانية لاتفاقات سايكس بيكو لتحقيق حلمهم التاريخي في دولة مستقلة، فالغرب يريد استغلال الظرف الراهن من التفكك الذي تعيشه المنطقة، لإصلاح ما يعتبرونه خطأهم التاريخي بحقهم، ولا نستبعد أن يستخدمهم الغرب كأحد الأدوات الرئيسية في رسم الحدود الجديدة، خاصة في سورية والعراق وتركيا.

أما السودان فقد استهل به الغرب واقعة مراجعة “سايكس بيكو” بحيث دعم انفصال الجنوب ذي الأغلبية غير العربية عن الشمال العربي. وجارته الشمالية ليبيا سائرة على نفس النهج بتقسيم ثنائي أو ثلاثي.

المخطط الجديد لتعديلات سايكس بيكو الثانية يتم طرحه من خلال عناوين متعددة، مثل اللامركزية، والفيدرالية، والكونفدرالية، والدول الإثنية، والطائفية، كبديل لحالة “اللاتعايش” السائدة حاليا، ومن المؤلم أن البعض يرى فيها طرحا وجيها، ويضرب أمثلة عديدة في هذا المضمار، مثل سويسرا وبلجيكا، وحتى أمريكا نفسها.

خاتمة

فشل الانتفاضات الشعبية العربية في تقديم البديل الأفضل لحكم الديكتاتوريات العربية، لا يبرر العودة إلى هذه الديكتاتوريات التي سقطت، أو الاحتفاظ بالحالية منها، وإنما يتطلب الأمر استمرار الضغوط من أجل الإصلاح بأشكاله كافة، ويجب أن تعرف جميع الأنظمة العربية الحاكمة أنها تعيش أزمة شرعية، وأن عليها أن تكسب دعم وتأييد وثقة شعوبها، من خلال الاعتراف بأن أدواتها القديمة في الحكم لم تعد صالحة، ولا بديل أمامها غير حكم القانون، والعدالة الاجتماعية، والحريات السياسية، فعالم تحكمه ثورة وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن السيطرة عليه بالبوليس السري، والقمع، وأساليب الرقابة والحجب، وإلا فالانتفاضة قادمة لا ريب فيها.

رغم هذه الصورة القاتمة، هناك أمل بالصحوة والتغيير، وتحقيق النهضة التي تطمح إليها أمتنا، فهذه أمة لها عقيدة قوية، وتراث مشرف، وجيل واعد من الشباب.