تتوالى الأحداث لتكشف طبيعة العقلية التي تحكم المغرب وتتحكم في مقاليد السلطة والثروة والنفوذ، وهي الأحداث التي تؤكد خلاصة أساسية: استنزاف متواصل -عن سبق إصرار وترصد- لرأس المال الاقتصادي والسياسي والرمزي لشعب أبت سياسات حاكميه إلا أن تجعله في ذيل الأمم.
قبل أيام تم إقرار قانون “إصلاح نظام التقاعد” لسد العجز الذي تسببت فيه السرقات الموصوفة للصناديق واختلاسات المسؤولين التي جرت على أعين السلطة وعدم أداء الدولة لالتزاماتها المالية اتجاه الصناديق، عجز تريد الحكومة اليوم أن تسده من جيب ومال ووقت وصحة العمال والموظفين والمستخدمين. إن هذا “الإصلاح” المزعوم ينتمي إلى سياسة عامة كرستها الدولة بشكل ممنهج منذ خمس سنوات، حيث تقوم هذه السياسة على سداد عموم المواطنين ما تراه السلطة ضروريا لجبر الكسور التي تسببت فيها سياسياتها. وفي هذا الصدد جاء تحرير أسعار البترول وإلغاء صندوق المقاصة وتقليص الإنفاق في القطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم وارتفاع تسعيرة الماء والكهرباء والإضرار بمستوى عيش الطبقة المتوسطة ناهيك عن الفئات المسحوقة دوما.
في الدول التي تستند إلى “شرعية التفويض الشعبي” وتتكأ على “مشروعية ممارسة الحكم” لا ضرر في أن يسهم المواطن من قوت يومه وعياله، لتنطلق دولته نهضة وإصلاحا وتطويرا بغية سد العجز وتوفير الدعم وتحقيق الإقلاع الاقتصادي وبناء النموذج التنموي الحضاري المتقدم، ولكنه حين يقوم بذلك يطمئن من جهة إلى أن نظام الحكم يمثله ويعكس تطلعاته ويعبر عن “سيادة الأمة”، ويرى من جهة ثانية في مسؤولي الدولة وقياداتها الرئيسة الإقدام على التقلل والتقشف والمسابقة إلى الإنفاق ناهيك عن التعفف عن المال العام فبالأحرى سرقته.
في المغرب المستباح، وفي الوقت الذي تصر فيه الدولة على إسهام المواطنين في حل الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية التي تعترض البلد، نجدها تقدم المال العام على طبق ذهبي إلى أصحاب الوجاهة والسلطة والنفوذ ضمانا للولاء وتقديما للريع الاقتصادي مقابل الخضوع السياسي.
إن الفضيحة الجديدة “خدام الدولة”، المحمية بالقانون!! لا تكشف فقط إهدارا غير مبرر لثروات الوطن وتضييعا مكشوفا للممتلكات العامة التي يفترض أن يتساوى أمام الاستفادة منها جميع المواطنين، ولكنها تؤكد سياسة رسمية للدولة المغربية قائمة على أن المواطنة ليست واحدة، فالمغاربة ليسوا سواء؛ بل مواطنون مسحوقون تقدم لهم الفتات، و”خدام أوفياء” يسترزقون على حساب البلد وساكنيها.
قضية “خدام الدولة” ليست سوى واحدة من القضايا التي تجيبنا بوضوح لا لبس فيه عن السؤال الذي رفع قبل سنتين: “أين الثروة؟”، إذ يبدو أن الجواب تكشف أخيرا؛ فخدام الدولة ومعاشات البرلمانيين والوزراء وتعويضات الموظفين السامين وميزانية القصر ووثائق بنما… تنهي مرحلة سؤال البحث عن الثروة، لتطرح سؤال: ماذا بعد أيتها السلطة؟