من الأمم التي جعل الله، جل وعلا، تاريخها عبرة لكل الشعوب والأمم، وأمر المسلمين، خاصة، بالاعتبار من سيرتها والنأي بأنفسهم عنها تجنبا لمصيرها، اليهود. فقد ورد في كثير من الآيات في عدد كبير من السور القرآنية قصص من فتن اليهود وضلالاتهم ومعاناة الأنبياء معهم لكفرهم وجحودهم ومكرهم وخبثهم سواء في تعاملهم مع سائر الناس أو في تعاملهم مع أمة الاسلام خاصة. ومن السور القرآنية التي تحكي جانبا مهما من هذا الصراع، سورة الحشر التي خصها الله تعالى بتبيان جزء من مكر اليهود وعاقبة دسائسهم، رغم خطورة ومتانة هذه الدسائس وتنوعها وتعدد واجهاتها وأدواتها. قال الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ(الحشر 1-2).
من المعلوم من تاريخ التجربة اليهودية أن هؤلاء القوم شديدو الحرص، يستخدمون دائما كل الوسائل للسيطرة وتحقيق المنعة والحماية من بطش الأقوام الأخرى. فقد علّمتهم المآسي التي تعرضوا لها طيلة تاريخهم كيف يحصنون وجودهم وسط الأمم التي عايشوها من خلال حصون متعددة، سواء منها المادي أو المعنوي الرمزي. فشيدوا أنواعا من الحصون يحتمون بها، منها السياسية من خلال اختراق الأنظمة السياسية للأمم الأخرى عبر صناعة أنظمة موالية لهم بالدسائس والأموال وصنوف الإغراء. ومنها الأمنية من خلال التجسس على الأمم والدول والتسرب لأنظمتها الأمنية أو اختراق مجتمعاتها ونوادي النخبة فيها واستمالة ضعاف النفوس منهم، وما أكثرهم، لتوظيفهم في السيطرة الخفية والتحكم العميق في دواليب الدول والأنظمة الحاكمة. ومن هذه الحصون ما هو اقتصادي وهو موقع القوة ونقطة الارتكاز لدى اليهود، فثرواتهم الذاتية لا تعد ولا تحصى تضاف إليها ثروات شعوب ودوّل كثيرة موضوعة تحت تصرفهم بسبب موالاة حكامها لهم. فبالمال تُصنع العجائب وتخترق المجتمعات وتمول استراتيجيات السيطرة والتحكم. ثم هناك الحصن الإعلامي من خلال تطوير وسائل السيطرة على الأفئدة والعقول وتحقيق إذعانها واستسلامها واختراق المجتمعات وإضعاف منعتها ونشر الوهن والهزال في أنسجتها الاجتماعية باستهداف عوامل المناعة الأخلاقية والقيمية لهذه المجتمعات. دون أن ننسى الحصن العسكري الذي اعتمد على توفير السلاح وصناعة المُوالي من الأمم الأخرى للدفاع عن اليهود ضد أعدائهم.
خلاصة القول أن اليهود شعب يقدس التخطيط لذاته وحماية وجوده وابتكار وسائل الحفاظ على هذا الوجود من خلال التحكم والسيطرة والتحالف مع الأقوياء. لكن الله عز وجل يُبين من خلال وقائع التاريخ أن هذا الشعب تعرض على الدوام لمآسي خطيرة هددت وجوده باستمرار ولم تنفعه إبان هذه الأزمات لا حصونهم ولا استراتيجياتهم ولا تحالفاتهم ولا أي شيء، إذ كانت النكسة والمصيبة دائما بانتظارهم بما كسبت أيديهم وبطغيانهم وإشعالهم الحروب والنزاعات وبُغضهم السلم والسلام. وهو ما عبرت عنه البلاغة القرآنية بقول الله عز وجل فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا…، فصاروا لشدة رعبهم وضلالهم عن الحق معاول ناجعة تهدم ما صنعوا وتخرب ما أنفقوا عمرهم ومالهم لبنائه وتشييده.
وقد أغرت تجربة اليهود ومكرهم، خاصة في زماننا هذا وفي بلداننا هذه، كثيرا من الحكام على رقاب المسلمين باستلهام هذه التجربة من حيث مبدأ التحصين في مواجهة شعوبهم وقواها الحية. فصنعوا حصونا متنوعة، سياسية واقتصادية وأمنية واعلامية واقتصادية وغيرها علها تحول دون سنن الله في الظالمين. لأجل ذلك تجد هؤلاء الحكام في عداوة مستحكمة تجاه أهل الحق، وهمهم المقيم المقعد إفناؤهم بكل السبل أو في أضعف الحالات الحد من انتشار إشعاعهم ودعوتهم وصد الناس عنهم. وفي كل معركة لهم ضد الحق يعدون العدة معتقدين جازمين أنها ستكون الأخيرة والحاسمة لكن هيهات هيهات، فكما اندحر اليهود خلال تاريخهم عشرات المرات يندحر دائما من هم على ضلالتهم ومن ينهجون نهجهم. فدائما وأبدا تحق فيهم سنة الله فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا. وما تعيشه الحركة الإسلامية اليوم في كل قطر عربي عامة، وفي المغرب خاصة، من تضييق ومحاربة متعددة الأوجه والوسائل يندرج في هذا السياق السنني الرباني، فكما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم على خبث اليهود ومكرهم ودسائسهم ستنتصر، حقا وصدقا، كل دعوة وارثة له بشرط الصبر واليقين… وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (السجدة 24).