تحت شمس حارقة، ولظى الجفاء والبعد.. سارت بأنفاسٍ مُعوجّة وخطوات مُتهالكة، ترمي ثقلها على أثر ذَرَتهُ الرياح ذروا حتى اندرست معالمه أو كادت.
أعياها الجوع والظمأ. منذ زمن لم يسلُك إلى جوفها طعام ولا ماء، عدا ذكريات تعتصر حلقها اعتصارا، وتُوجع قلبها حتى تكاد تختنق.
-رباه! ما حل بي؟ أيني؟ ما هذا الحر؟ وما هذه الكتل التي تلهب قدماي، وتنهكهما؟ كيف سَقَطْتُ في هذه البئر اللَّظى؟ وكيف أخرج منها إلى الوجود.. إلى الحياة؟
تردد صدى تساؤلاتها وتبدّد، غير أنها لم تَحِرْ جوابا، فلزمَت الصمت وتابعت المسير.
بعد قليل
وعلى بعد أمتار منها، لاحت لها واحة. فَغَرَتْ فاها اندهاشا..تلعثمت فرحتُها وتسابقت قدماها نحو ما لاح وبدا واقعا بعيدا عن الخيال.
اقتربت شيئا فشيئا. وكلما اقتربت، تراجع ظل الواحة وتقهقر..
أمسكت نفْسها عن السير، فَدَنت منها الواحة الظليلة تعرض أكلها وماءها وثيابها السندسية، للاجئة تبحث عن ملاذ وارف.
حرَّكت حاجبيها بتعجب، لكنها لم تتساءل كثيرا.. كان الجوع والعطش قد نالا منها، وأذهبا بكل ما تبقى من يقظة وانتباه فيها.
ارتَمت بين الأشجار والثمار والمياه، تروي ظمأها وتستر جوعها.
شربت وأكلت..حتى أصيبت بالتخمة. ولما انتهت، جلست تستريح تحت ظل شجرة باسقة.
فجأة
سرى وجع بين أضلعها المنكسرة..ما عرفت له سببا..تلوَّتْ وأخذت في الصراخ.. وما من مجيب ولا مغيث.. حسبتها النهاية.
يا للسخرية! لم تمُتْ جوعا.. لكنها ستموت تخمة وشِبَعًا!
اختلطَت في مُقلتيها عناصر الألم والحسرة واليأس. بكت وبكت وبكت من فرط الكمد.. هزت رأسها وانتبهت إلى كفيها المغمورتين بالأسى، فرفعتهما إلى كريم مجيب قريب، يقول في كتابه العزيز: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.. [البقرة : 186].
تساقطت على قلبها الموجوع رُطَبُ ذكريات غمرتها غمائم الشتات والانكسار، وعلتها أمواج الاستعلاء والاستكبار.. وداهمتها عوامل الهدم والتوطين.
مدت يدها كمن يثق بوجود يد أخرى ممدودة تنتظر من يتمسك ويعتصم..
لامس الكف المتقرح كفا نديا..وأطبقت اليد على اليد تسحبها إلى نور فجر وضاء ونسيم عليل..
وكأنه انتقال عبر الزمن..
تناهى إلى سمعها أصوات باعة جوالة، وأبواق سيارات، وضجيج أفواه تملأ المكان.
قلَّبَت بصرها ذات اليمين وذات الشمال.. تحاول فهم ما يقع، وتلمس إشارة ترشدها إلى معرفة مكان وجودها..
ما إن حوّلَت نظرها إلى الأمام، حتى تراءتْ لها ابتسامة طيبة، تمحو تجاعيد هَمّ كوى ملامحها المتناثرة، وتجمع طيات فرحة كانت مبعثرة داخلها..
– “..أنا أيضا أم.. وأشعر بوجعك سيدتي.. فتح الله لك وعجل بشفاء ابنك.
احتفظي بآنيتك.. واقبلي هذا البِضَعِ من عوننا.. عسى المولى عز وجل يفرج همك قريبا جدا”.
غمغمت بِنُثَرِ الكلام.. لم تجد بين شفتيها جملا متماسكة تصف شكرها وامتنانها لذات الابتسامة الطيبة.
“على صفحة الشّرود المُنتبه”
نشر بتاريخ
نشر بتاريخ