بعد زلزال أكادير الذي ضرب المدينة في آخر يوم من شهر فبراير سنة 1960م، وأدى إلى تدمير جل مبانيها ونكّب بسكانها، قامت السلطات بإنشاء بعض الأحياء الصفيحية، كان أكبرها حي “أمسرنات”؛ الواقع بمحاذاة سوق الأحد الأسبوعي من جهة الشرق ووادي الحوار على ضفته اليمنى، وهو حي مجهز بسقايات ومراحيض عمومية، تتوسطه مدرسة ابتدائية تحمل اسم الرحالة المغربي ابن بطوطة.
تمت إعادة هيكلة الحي في أواسط سبعينيات القرن الماضي من خلال إنهاء دور الصفيح وإحلال منازل عصرية مجهزة محلها، خاصة في الجزء الغربي من الحي، بينما بقي الجزء الشرقي منه على حالته الأولى حتى منتصف التسعينيات.
بعد عقدين من إنشاء حي “أمسرنات”، وأقل من عقد على إعادة هيكلته وتجهيزه، يحلّ به وافد جديد يجاور قاطنيه؛ شاب في مقتبل العمر، يبتسم لكل من يقابله. اعتاد أن يمر عبر أزقة الحي يحمل كراريسه متجها إلى عمله، ويحمل معه دعوة وخيرا، سرعان ما ظهرت في مسجد سوق الأحد الذي يرتاده سكان الحي لأداء صلواتهم المفروضة، حيث ولأول مرة يقوم هذا الشاب بإمامة المصلين في صلاة التراويح لشهر رمضان المعظم لعام 1403ه الموافق لعام 1983 من التاريخ الميلادي، بطريقة حبّبت الناس في صلاة التراويح، وأشاعت فيهم خشوعها، وقرّبت الشاب إلى الناس وحببته إليهم.
لم يقف أمر الرجل عند هذه الحدود، ذلك أنه لم يشأ أن يضع لنفسه وحركته ودعوته سدودا، فكان يتجول عبر مساجد المدينة المتفرقة بين أحيائها المتباعدة، مصليا ومناديا إلى التعاون على الخير والبر والخلق الحسن ومبشرا بدعوة وليدة عنوانها “العدل والإحسان”.
ولم تفت الفرصة صاحبنا ليكون ضمن الثلة القليلة من مؤسسي العمل الإسلامي بحاضرة سوس، من خلال المشاركة في تنشيط دروس وحلقات مجالس دار القرآن الواقعة بحي “تالبرجت” وسط المدينة. وهي كانت دار القرآن الوحيدة بعاصمة سوس، حيث يجتمع شباب من تيارات إسلامية ومن غيرها من عموم الشباب الملتزم، متآخين متحابين متبادلين المحبة والنصح والابتسامة. يقول من حضر هذه المجالس أنك حين تجلس بين يدي الأستاذ عبد الهادي ابن الخيلية تشعر أنك تجلس أمام مشكاة مضيئة.
كان الأستاذ عبد الهادي ابن الخيلية أستاذا لمادة الرياضيات، التحق بسلك التدريس بمدينة أكادير بإعدادية لالة مريم وهو في الخامسة والعشرين من عمره.
وشاء الله بتوفيقه أن يضع دعائما متينة لبيته وأسرته، كانت أولاها أن اختار حي “أمسرنات” المجاور لأكبر سوق بأكادير دار مقام له ولأسرته التي وضع أسسها بعد زواجه من شريكة حياته وأم أولاده وقرة عينه الحاجة نورا البشارة حفظها الله. كانت بالفعل بشارة تحمل بشائر لأهل الجنوب برحمتها ومحبتها وحسن ضيافتها، وكانت نورا سرى بين جيرانها وشد من عضد زوجها وحضن الدعوة في أولها.
الدعامة الثانية التي أنشئ عليها هذا البيت السعيد هي المودة والرحمة التي عمت البيت وجواره، حتى تحسس أنواره وبركاته الجيران وكل زائر للبيت. بيت بسيط يتكون من صالة وفناء واسع وغرفتين ومطبخ وحمام، لكنه فسيح ورحب رحابة قلوب ساكنيه.
أما الدعامة الثالثة التي قام عليها بيت الأستاذ ابن الخيلية بأكادير، فهي أنه كان قبلة لغرباء متحابين في الله يجتمعون لذكره وتلاوة كتابه، تغشاهم رحمته وتحفهم ملائكته وعنايته ويذكرهم الله في الملأ الأعلى، ويسير بذكرهم ركبان الحي ومشاته وعابريه.
بيت جاء يطلب من ساكنه التفضل بقبول الاستقرار به وعمارته! يحكي الأستاذ عبد الهادي أن لمسكنه بحي “أمسرنات” قصة عجيبة؛ ذلك أن هذا البيت يعود لملكية أسرة بالمهجر في أوربا، وأن القيّم عليه هو أحد أصهارهم الذي يقطن طابقه العلوي، ويشرف على كرائه وتحصيل ثمن الكراء لصالح مالكيه. هذا الرجل هو الذي جاء يسعى إلى هذا الشاب عبد الهادي، الذي سرى بذكر سلوكه الحسن الركبان، فرحا ومقترحا أن يجاوره في الطابق السفلي من البيت، وهو ما تم من دون كثير عناء. فقبل الشاب أن يجاور هذا الرجل الطيب الذي يختار لجيرته من يلمس فيهم الصلاح والتقوى.
يقول ابن الخيلية إنه سكن هذا البيت سنة 1984 رفقة الأستاذ محمد خيزران رحمه الله تعالى؛ الذي كان رجلا مجاهدا محبا للمؤمنين، كريما هينا لينا، عاش معه لحظات ربانية وكان نعم الأخ ونعم السند. وكان رحمه الله ينحدر هو الآخر من مدينة أسفي، وقد تخرجا في نفس السنة من المركز التربوي وشدّا الرحال معا إلى الجنوب وكان ما كان مما أراده الله لهما ولدعوة العدل والإحسان.
شهد هذا البيت الكثير من مواسم الخيرات والبركات التي طفحت بها أركانه، وتنسمت بها جدرانه، فسرت سكينة وطمأنينة تكسو جيرانه ومجاوريه، وتغشاهم بالخير والسكينة، فكان أن التفت الناس إلى صاحب البيت وإخوانه الذين تعلوهم نورانية خاصة، لا يخطئها ذو قلب سليم.
يتنهد الأستاذ عبد الغني أولاد الصياد مترحما على الأستاذ خيزران، قبل أن يستأنف حديثه وعلى وجهه ابتسامته الواسعة، لقد كان هذا البيت قبلتنا وهو مقرنا الذي انطلقت منه دعوة العدل والإحسان في الجنوب. “أتذكر أنّ أول بيت ولجته بمدينة أكادير سنة 1984 كان بيت الأستاذ عبد الهادي. كنا نلتقي أسبوعيا كل يوم سبت، أقدم أنا من مدينة أولاد تايمة حيث أشتغل أستاذا هناك ويقدم الأستاذ محمد قورش من الدشيرة، ونلتقي عند الأستاذ عبد الهادي لتتفرع بعد ذلك ثلاثة أسر ويبدأ أمر الله”. يسكت قليلا قبل أن يتذكر: “لن أنسى عطاء الأستاذ حسن لمداسني حفظه الله، رجل دعوة، صبر وصابر واجتهد وجاهد، ثم الأستاذ ابراهيم الصواهي فتح بيته في الخيام، وصرنا أكثر دفئا وأقل ازدحاما”.
بدوره حين يتحدث الأستاذ محمد قورش عن هذا البيت تحسّ في صوته ارتعاشة انفعال وحنين واشتياق، يقول بصوته القوي ونظرته الواثقة: “من هذا البيت انطلق النور؛ فيه اجتمعت القلوب لأول مرة وتعاهدت على تأسيس اللّبنة الأولى للعمل بالجنوب… دخلته أول مرة لأحضر الرباط الأول بالجنوب، وفيه ذقت ما ذقت وعشت ما عشت، وفيه كان أول لقاء لي مع الحبيب الأستاذ محمد عبادي حفظه الله الذي زار رباطنا وكانت أول زيارة له لسوس… وبعدها توالت اللقاءات والمناسبات، ولا أزال أذكر حضور الأستاذ العلوي وسيدي البشيري رحمهما الله وسيدي متوكل بمناسبة عقيقة البنت أسماء، وكان لقاء ربانيا تواصليا سمِعَنا الناس وسمِعْنا من الناس..”.
كان علي وإبراهيم وعبد العزيز ومصطفى وعبد القادر ونجيبهم إدريس تلاميذ حينما عقدوا مجلسهم بهذا البيت في أحد أيام شهر شتنبر من سنة 1989، تعاهدوا على التعاون على البرّ والمعروف، وشد عضد بعضهم البعض في طريق الله، وتدارسوا أحسن السبل لدعوة أقرانهم من التلاميذ إلى ما هم فيه من خير، كان ذلك بإشراف من الأستاذ عبد الهادي يرافقه الطالب إبراهيم.
يفتتحون مجلسهم بقراءة القرآن ويتدارسونه بينهم ويتعاهدوا في آخر اللقاء على برنامج تربوي، يبدأ بقيام الليل وذكر الله ودعوة الناس كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ويتواصون على التفوق الدراسي لأنه جهاد وقتهم ومرحلتهم.
الكثير من طلبة الجنوب مروا عبر هذا البيت، خصوصا بين سنتي 1986 و1987؛ إفطارات جماعية في رمضان، ووجبات واحتفالات في الأعياد، ورباطات ذكر وقيام ورجولة…
تنوعت اللقاءات وتعدّدت مجالس الخير، وتخرّج من هذا البيت الكثير من أبناء العدل والإحسان وأطرها، احتضنهم وأهله سنين عددا مستبشرين غير ضاجرين ولا مستثقلين.
في سنة 1987 وبمناسبة انعقاد أول رباط بالجنوب، جاء من أقصى المغرب رجل يسعى. كان الموعد الصلاة والمسجد والسوق، فدخل الزائر الأستاذ محمد عبادي مسجد سوق الأحد مؤديا فرضه، راجيا من الله قضاء غرضه بلقاء أخيه وحبيبه الشاب ابن الخيلية.
بعد الصلاة التفت الغريب ذو الهيبة والوقار إلى جمع المصلين، فألقى موعظة بليغة كعادته وديدنه اليومي، تركت وقعها في السامعين فالتفوا حوله يسلمون عليه ويشكرونه..
عرض عليه إمام المسجد ضيافته فاعتذر معبرا عن وجهته، فتهللت أسارير الإمام وأخبره أن أستاذ الرياضيات هو من يصلي بهم التراويح، وأوصله إلى البيت العامر المقصود. فكان أمر الله مقضيا. دخل الأستاذ عبادي البيت وحضر الرباط، كانت مجالسته نورانية تحمل عبق الصحبة، يحدثهم عن المرشد ومشروعه كأنه كتاب مفتوح، دائم البسمة كقنديل منصوب، فكانت كلماته مؤثرة بما فتح الله بها من مغاليق القلوب والأفهام والآفاق.
اجتذب بيت الأستاذ عبد الهادي وترصده أشخاص آخرون أيضا وتلصصوا عليه، هم أعوان المخزن وأعينه التي تحصي الأنفاس وتتوجس من كل صاحب تأثير حسن في أوساط الناس. فكان أن غدا الشاب الداعية تحت أعينهم ومراقبتهم، هو وكل زواره، في البيت والعمل، في الليل والنهار، إلى أن تم اعتقاله رفقة حوالي الثلاثين من إخوانه، جلهم من مدينة تارودانت وأحوازها.
جاءه زائرا ذات مساء أخ له هو الأستاذ محمد إكو الذي رأى بأم عينيه سيارات الأمن ترابط بباب المنزل، فأتم مسيره خارجا من الزقاق، ليجد الأستاذ عبد الهادي قاصدا بيته، فأخبره بالأمر طالبا منه عدم الاقتراب من المنزل. وهو ما اعتذر عنه الأستاذ الشاب ابن الخيلية بقوله: وإلى متى؟!
عاد إلى بيته حيث اعتقل وحمل إلى مخافر الشرطة بإقليم تارودانت، ليتم جمعه بإخوانه المعتقلين قبله تحت الحبس والتحقيق.
اقتحموا البيت الهادئ بوجوههم المكفهرة وأحذيتهم الثقيلة، فتشوا كل أركانه غير مبالين بنظرات البنتين الصغيرتين اللتين لا يتجاوز عمر كبراهما أربعة أعوام ولا باحتجاج السيدة نورا وهي تحمل ابنها حمزة الذي كان بالكاد يكمل شهرين من ولادته.
كانت الحاجة نورا مثالا للمرأة الصابرة المجاهدة، أمضت ستة أشهر وهي تحمل قفّتها إلى السجن وتعود واثقة بموعود الله راضية بقضائه.
بيت أرقمي، كما يحب الأستاذ محمد إكو أن يسميه، منه انطلقت أنوار الدعوة، وفيه ترعرع الشباب وتخرج الأطر، وبين أحضانه كبرت دعوة العدل والإحسان وشبت عن الطوق. وما يزال إكو وإخوانه يتذكرون بعد أزيد من ثلاثة عقود ونيف أول خطواتهم داخل هذا البيت؛ الذي غير مسار حياتهم وجعلهم رجالا آخرين.
الأستاذ محمد إكو المنحدر من الجنوب الشرقي وبالضبط من مدينة تنغير، والذي أسرته كلمات الأستاذ عبد الهادي في أول لقائهما بدار القرآن بـ”تالبرجت” سنة 1985، وجد نفسه ملازما للبيت في صحبة ثلة من إخوانه الطلبة الذين قدموا معه من الشرق والتحقوا بهذا البيت، قبل أن يستقلوا ببيت خاص بالطلبة بحي بوركان، فتأسست أول شعبة بأكادير سنة 1986.
مع مرور الوقت أصبح هذا البيت منارة للدعوة، يحج إليه في كل يوم عدد كبير من الناس، حتى أنه لم يعد بمقدور صاحبه احتضان كل اللقاءات، ثم ما لبثت بيوت الأعضاء أن انفتحت لتنتشر دعوة العدل والإحسان في باقي مناطق الجنوب إلى يوم الناس هذا.
سيظل بيت الأستاذ عبد الهادي بحي “لمسيرنات” ذاكرة حية تذكر أجيال العدل والإحسان بأفضاله على هذه الدعوة؛ إيواءً وتأييدا وعطاءً. وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة الأنفال: 26).