سحرتني آية (9).. ويسألونك عن الروح        

Cover Image for سحرتني آية (9).. ويسألونك عن الروح        
نشر بتاريخ

بقلم: ذ. حسن الحروصي

أهل التفسير هم من أهل الله وخاصته، وهم الذين بذلوا أعمارهم لإيضاح ما نزل الله في كتابه العزيز. جزاهم الله عن الأمة خيرا كثيرا.

وإذ أكتب في ظلال آية من كتاب الله عز وجل، ليس من قبيل التقدم بين يدي علمائنا، ولا من باب مطاولة أحدهم أو معارضته، أعوذ بالله. إنما أستأذن أهل التفسير في فهم انقدح بذهني، فإن لم يعارضوه أمضيته، وإلا نبذته ووليته ظهر النسيان. نسأل الله الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، والسداد والإمداد.

قال الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) الإسراء.

قال صاحب الظلال، رحمه الله، عند تفسيره لهذه الآية: والمنهج الذى سار عليه القرآن – وهو المنهج الأقوم – أن يجيب الناسَ عما هم فى حاجة إليه، وما يستطيع إدراكُهم البشرى بلوغه ومعرفته، فلا يبدد الطاقة العقلية التى وهبها الله لهم فيما لا ينتج ولا يثمر، وفى غير مجالها الذى تملك وسائله، وبعضهم عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمره سبحانه…

وليس في هذا حجر على العقل البشرى أن يعمل، ولكن فيه توجيهًا لهذا العقل أن يعمل في حدوده، وفي مجاله الذي يدركه .

والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه… ولقد أبدع الإِنسان في هذه الأرض ما أبدع، ولكنه وقف حسيرا أمام ذلك السر اللطيف – الروح – لا يدري ما هو؟ ولا كيف جاء؟ ولا كيف يذهب؟ ولا أين كان ولا أين يكون، إلا ما يخبر به العليم الخبير في التنزيل “. (من كتاب في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله تعالى)

 أُغلِق على الإنسان باب الخوض في ما لم يُخلق من أجله، وفُتحت له أبواب المهمة التي خلق من أجلها، قال الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات.

وإذا نظرنا في الآيات من سورة الإسراء – قبل آية ويسألونك عن الروح – وهي قوله تعالى: أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا (78) وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا (79) الاسراء.

يتبين أن الله يدعونا للاهتمام بكيفية عروج الروح وارتقائها ومسابقتها لنيل مقام محمود عنده، لا لتبديد العمر، وهو أثمن ما نملك، في البحث عن حقيقة الروح وماهيتها.

وقال الإمام القرطبي رحمه الله: “وقوله تعالى: قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي دليل على خلق الروح، أي: هو أمر عظيم، وشأن كبير من أمر الله تعالى، مبهمًا له وتاركًا تفصيله، ليعرف الإِنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها. وإذا كان الإِنسان في معرفة نفسه هكذا، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق – سبحانه – أولى. وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز.” ( الجامع لأحكام القرآن ).

من هنا ندرك أن الله عز وجل ابتلانا بالأمر لنعمل بالمأمور ما استطعنا، وابتلانا بالنهي لنكف عن المنهي، وابتلانا بما أجرى علينا من أقدار لنرضى عنه ولا نتسخط. هذه هي العبودية التي دعينا إليها والتي خلقنا من أجلها.

وما ضر المسلمين وفرق وحدتهم مثل ما انفتح عليهم من فتن الخوض فيما لا نفع من ورائه، خاصة ما يتعلق بالآيات المتشابهات.

قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) آل عمران.

وورد عند البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: “فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم “.

وأورد المفسرون عند “آية الروح” حديثا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة، وهو متوكئ على عسيب، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقال بعضهم: لا تسألوه. قال: فسألوه عن الروح فقالوا يا محمد، ما الروح؟ فما زال متوكئا على العسيب، قال: فظننت أنه يوحى إليه، فقال: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.

فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه.

من هذا الحديث نتعلم أن نصرف الاهتمام إلى ما ينفع، ونتعلم كذلك أن يهود، وقد كانوا أهل كتاب قبلنا خبروا مواضيع غريبة تتطلع النفوس لمعرفتها، وخاضوا غمار علوم لا طائل من ورائها فضلوا وافترقوا، فهم أهل تجربة ودراية بمداخل الشك والوسواس في النفوس، ويعلمون تأثير ذلك بين الناس. لذلك كانوا يبثون في مجتمع الرسالة المحمدية الأول وساوسهم، وكان الوحي يدفع ويوجه.

 ولما انكسر باب الفتن وقطع زمام الخلافة، اجترأ أهل الزيغ على الكلام لوجود ضعاف النفوس حتى افترقت الأمة إلى فرق يكفر بعضها بعضا ويضلل بل ويقاتل؟

إن قول الله عز وجل: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، تعليم لنا بأن نسأل عما يقربنا إلى الله فعلا أو تركا أو تسليما للقدر، ظاهرا وباطنا، وأن نكف عن الخوض فيما يشغلنا عن ذلك.

روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”.

هذا ومسك الختام الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.