ما من شك في أن الكتاب لصيد العلم قيد، وهو ترجمان عما في وجدان من كتب، وعصارة تجربة من ألف.
هو كذلك الكتاب، لكنه يبقى شهادة قسط أو زور بحسب نية الكاتب، ومرجعيته ومقصديته، وهنا يتفاوت الكتاب ويتفاضلون كل حسب موقعه، وكل حسب مستطاعه، وكل حسب مرجعه ومشربه ومنبعه، وكل حسب مذهبه ومسربه ومنزعه، وكل حسب ما قدر الله له، وما خلق لأجله.
هذا عن الكتاب، والمرشد المؤسس رحمه الله كان في هذا الباب رائدا لا يُسبق، وسابقا لا يُلحق، وملحق نبوة ورحمة، وخلافة راشدة، بيديه أراد تنزيل قدر الله، وسعى إلى تحقيق الموعود المصدق على أرض الواقع المتمنع، وبمنهاجه، ومن خلال جهده واجتهاده وجهاده تأتى تجديد الدين على أفضل نسق، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير جزاء، وجعلنا معه ومنه على عهد الثبات والوفاء.
كتُب المرشد المؤسس مراجع جوامع لفقه واسع في الدين والواقع، تسأل بصادع هل من قارئ؟ هل من سامع؟ هل من متبع؟ هل من منتفع؟ لكن رسائل هذا الوالد الحبيب، والحكيم الطبيب الأريب اللبيب تزيد على كونها كما الكتاب بيان وترجمان، وشهادة عدل وإحسان بصدق وبرهان، ومعيار استبصار، وأداة مساعدة على التبين والاختيار، نتاج تمحيص وثمرة تأمل واعتبار، تزيد على ما في الكتاب من كل هذا وغيره كونها من جملة الأسرار، لأن من كتب الرسالة إنما أرادها أن تكون بريد تواصل خاص، باعتبارها مرسلة إلى عنوان خاص، في موضوع خاص، ولغرض خاص يمكن أن يبقى أمانة عند المرسل إليه فلا ينشر، أو سرا محفوظا لديه لا يُسر به إلا لمن هو حري بسماع خبره والانتفاع من أثره وأجدر.
هذه الخصوصيات تجعل من الرسائل وسائل كشف عن الحقائق، وأهم السبل والوثائق للإفصاح عن هوية المرسِل وبواطنه، وما لا يملك الكشف عنه للعموم لهذا يتردد من لديه رسالة من طراز رفيع تلقاها من عالم عَلم، مُرب مُعلم حكيم خبير في نشرها على مرأى ومسمع لئلا يهتك سترا، أو يكشف سرا.
لكن صدقوني لم أجد في رسائل المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله إلا الممتع المفيد الذي من كنز الذهب والفضة الذي نهينا عنه أن ندخره لأنفسنا، ونحتكر استثماره دون الناس، لأنها رسائل في صناعة الحياة بل في صناعة التاريخ.
وإلى الأحبة من ينتظرون مني لبنات أخرى من لبنات هذا الإمام المجدد من الدعاة البناة أقدم لهم نموذجا شاهد إثبات.
الرسالة تصنيف من خبير لعينات من أبناء الإسلام، بل أبناء دعواته وحركاته، تضع المرسل إليه في صورة كل عينة على حدة، وكيف التواصل معها في إطار المتفق عليه الذي ينبغي أن يكون محط تعاون وتباذل وتكامل، وما ينبغي تفاديه تجنبا للقضايا التي تفسد الود، وتوقع في مراء الأخذ والرد، وتؤول بالعلاقة إلى جزر بعد مد. هذه التصنيفات والتوصيفات شأنها أن تكون معالم في طريق تواصل إيجابي، وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، وإن كان ثمة من أمور الدين ما لا يرقى إليه جدال لأن الحق أبلج، وما بعد الحق إلا الضلال. لن أطيل عليكم حتى يصبح الانتظار مريرا وهاك من هذه الحلقة من سلسلة رسائل الرجل ما يزيد الأمر جلاء ويقدره تقديرا.
“بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه
أخي الأعز سيدي منير الركراكي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكرك على تقديرك الضافي الوافي
من المسلمين والمؤمنين من تجمعك به دائرة الحلال والحرام، فإن خاطبته بما يقتضيه هم الآخرة والتزود لله بزائد عن الصلاة والتوحيد والفرائض من إصلاح الدنيا والتصدي للظالمين وجهاد الكافرين أغربت عليه. ومن المسلمين والمؤمنين من إذا ابتعدت به عن منطقة “المواجهة” و”الحل الإسلامي” وبناء الدولة وحاولت الحديث إليه عن إصلاح النفس والتصفية بالفرض والنفل وحفظ القرآن وقيام الليل فقد فجعته فيك حيث كان يظن إسلامك شيئا غير ما يعتبره عبادات نتفرغ لها بعد قيام دولة الإسلام. ومن المسلمين والمؤمنين، بل عامتهم، من غاب عنهم غيابا تاما ـ وهم يقرأون الكتاب وسنة من نزل عليه الكتاب ـ ما معنى وجود العبد وما المسلك لنيل كماله وما الدرجات في الآخرة وما القرب من الله عز وجل وبم يكون التقرب ومع من وكيف. والعاكفون في الزاوية الصوفية أو الطرقية حدثهم عن هذا وعن هذا فقط. تشوش عليهم إن أسمعتهم من أمر الدنيا وهم الأمة وتخلف المسلمين وواجب الجهاد والتشمير للصراع مع الجاهلية ما هم فيه من ذكر أو سماع أو أحوال أو خيال أو قعود دسم.
خاطبوا الناس على قدر عقولهم، وأرى أن لا تتحدث في الصحبة والمنهاج والسلوك والمقامات إلا مع من أصبح منا قلبا وقالبا ـ واطو الحديث طيا كاملا عن المرشد والصحبة والروحانية والربانية عن جليسك من الأغيار، فلن يفهم منك أبدا إلا أنك تقدس الأشخاص وتعبد أوثانا على صفحات كتاب”.
في الرسالة أيضا إضافة نوعية وتوجيه مباشر لحسن التعامل مع أبناء الدار من الوافدين الجدد، الذين أوتوا نصيبا من هذه العلوم الكونية، التي تؤدي دورا فاعلا ومؤثرا ومغيرا في المجتمع الإنساني عموما، والمتحضر المتطور منه على وجه الخصوص. وللمرشد اهتمام كبير، بل منقطع النظير بأمثال هؤلاء، ولا طالما كنت جسر تواصل بينه وبين أفراد من هذا المعيار الذهبي الثقيل، أنقل إليه خبرهم، ويراسلني في شأنهم بما يوجه إلى المهيع اللاحب، والغايات العظمى، بما يجري الله من قلبه على لسانه من ينابيع الحكمة المسددة للرمي، الملهمة لصدق الإرادة والقصد في المشي، والرشد في السعي، هو ذا رحمه الله في الرسالة ذاتها يمدني بما أنصح به أحد الأحباب، ليرقى الأعتاب، ويلح في طرق الباب، حتى يلج الرحاب، متخليا عن الطبع المتمسكن، متحليا بعزم القوي المتمكن، متجليا بما يحب الله أن يظهر على عبده من آثار النعمة التي أنعم بها عليه، والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، واليد العليا خير من اليد السفلى، ورحم الله من أظهر من نفسه قوة يرهب بها العدو ويغيظ الكفار.
“(…) أنصح الأخ الجديد (…)أصلح الله به أن ينبذ نبذا تاما كل مظاهر الدروشة والمسكنة. بلغه سلامي وقل له يجعل نصب عينه مقالة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حيث خفق بالدرة رجلا متمسكنا حاني الرأس قائلا له موبخا: “أماتك الله كما أمتت علينا ديننا.” قل له تغالب الطبع يغالب ما ورثه وما نشأ عليه من تشبه جيل من المتدروشين بجيل. يلبس ويتكلم عاليا كما وصفت المؤمنة الإمام عمر رضي الله عنه: “إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع”. وفي الساحة من لا يضربهم ويوجعهم إلا الرجل المقدام لا الذي يظن ظن الغلط أن الله عز وجل يتقرب إليه بالمسكنة. كلا! كلا! كلا!(…)
إن الطليعة الرياضية نواة ضرورية لاغتنام العلوم. الرياضيات عليها مدار العلوم التكنولوجية كلها، والتكنولوجية عليها مدار استقلال الأمة. فواجب مؤكد أن يتفرغ الموهوبون لهذا الثغر من الجهاد. على أن يحضر (الأخ) مع إخوته أوقاتا، لا سيما لقيام الليل في حدود لا ترسله مع الميل الرياضي ولا تستبد بوقت يكون أفيد فيه أن يتفرغ لعلمه(…)”.
وفي الرسالة ذاتها حنو الأب العطوف وحدبه على صبي ينتشي بما يقع في يديه من حلوى فتطيش به الدعوى ليبوح بما أعطي وللرجال انشغال عن حلويات الصبيان بالقرآن وإحياء السنة والجهاد في سبيل تغيير ما بالنفس وتغيير ما بالأمة.
“لا تظن بالله الملك الوهاب أنه يستدرج عباده الصادقين. واقبل ما جاءك من بشارات بقلب منكسر وجأش ربيط ورأس عزيز وصوت جهير(…).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سلا ليلة 8 صفر 1412 غدها النصر أمام محكمة البيضاء إن شاء الله.”
وكانت الجماعة في غد اليوم الذي كتبت فيه الرسالة “يوم 19 غشت سنة 1991″ على موعد مع نصر مؤزر قبالة محكمة الاستئناف بالبيضاء، حيث احتشد الآلاف المؤلفة من أعضائها وقيادييها الذين جاءوا من كل حدب وصوب لينصروا عددا غير قليل من ناشطي طلبة كلية الطب بالبيضاء بعد الحكم عليهم ابتداء بسنين تحولت استئنافا لشهور بعد أن أذهل الحضور الكرام بحسن تنظيمهم، واجتماعهم على حين غفلة من الحراس والمراقبين، وأجناد الأمن المدججين، وبعد أن زعزعت تكبيراتهم الأبنية الفخمة في شوارع البيضاء الكبرى، وأمام واجهات شركاتها الضخمة، ومؤسساتها الفخمة لتبدأ عصي النظام الفوضوي في ضرب الصفوف الأولى، وليكون جلوس المعتصمين بحبل الله في أرض الثبات والجهاد صخرة ناطقة لا صماء تكسرت عليها معاول الهدم البلهاء، وليتحقق الرجاء أن يخرج الأضناء برآء من كل عيب، أطباء قلوب وأجسام، أحرارا شرفاء لا يقعقع لهم بشنان، ولا يكسر لنضالهم نصال، ورد الله الظالمين بغيظهم لم ينالوا خيرا، (وكفى الله المؤمنين القتال)، وتحقق ما وعد به المرشد وبشر، وهل اليقين إلا علم يُتعلم. يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ” تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإنى أتعلمه”. (أبو نعيم فى الحلية عن ثور بن يزيد مرسلاً).
هل ترون في رسائل الرجل إلا حسن استهلال ومسك ختام. حسن استهلال بتوجيه وترشيد، ونصح وتسديد، ومسك ختام بتحفيز وتبشير موافق لنصر من الله وتأييد.
رحم الله الرجل الرشيد، ورزقنا من إيمانه ويقينه ما نواصل به المسير إلى الغد المشرق السعيد في دنيا التمكين وآخرة الجنة والرضا مع الناضرة الناظرة على سرر متقابلين.
والحمد لله رب العالمين.