أوضح الأستاذ فتح الله أرسلان الناطق الرسمي باسم جماعة العدل والإحسان ونائب أمينها العام، أن خيار “التغيير من خارج المؤسسات الرسمية الذي ينطلق في مرحلة أولى من جبهةٍ لمواجهة السلطوية”، هو خيار واقعي، وهو “ممكن جدا، بل هو حتمي، لأنه لا بديل عن ذلك مطلقا إلا المزيد من تضييع الدولة وتفتيت المجتمع وإهدار الزمن السياسي”.
وشدد على أن هذا الخيار “لا محيد عنه بالنظر للمرحلة الخطيرة التي وصلت إليها بلادنا”. ومن الضمانات التي قدمها أرسلان على ذلك، ما وصفه بـ“النضج السياسي لدعاة المقاطعة، ووطنيتهم العالية التي تدفعهم إلى تقديم صالح الشعب ولو على حساب حريتهم، وحرصهم الأكيد على خروج المغرب من أزمته المستحكمة وانعتاق المغاربة من واقعهم الصّعب.”
تكريس جديد للسلطوية
واعتبر عضو مجلس الإرشاد، في حوار أجراه معه موقع الجماعة بحر الأسبوع المنصرم، أن المحطة الأخيرة من الانتخابات قدمت نتائج أساسية وخلاصات كبرى، أهمها أنها “شكّلت وسيلة إيضاح أخرى، تؤكد أن الانتخابات بشكلها الذي يجري في المغرب فاقدة لكل معنى وجدوى”، مشددا على أن الغاية منها هو “الإلهاء وتسويق الوهم، ودورها بلورة مؤسسات شكلية على المقاس، ومهمّتها إفراز نخبة خادمة للنظام ونواته الأساسية الحاكمة الفعلية للبلاد”.
وأشار إلى أن محطة 8 شتنبر بكل مسلسلها السابق واللاحق، “تميّزت بجرعة زائدة من العبثية والإسفاف، تخلص معها المخزن من قيود “ديمقراطية شكلية” أقدم عليها سابقا تحت الاضطرار، ليُسفر عن ممارسات سافرة غايةً في وضوح التحكم والتسلط وصنع الخرائط والنخب”.
وأضاف موضحا أن الأمر تجاوز تدابير تقنية، كإلغاء العتبة واعتماد قاسم انتخابي على أساس المقيدين في اللوائح، وترتيبات سياسية، كصوغ التحالفات والإقصاءات لصنع الأغلبية والمعارضة مركزيا ومحليا إلى “إعلان صريح عن القطع مع نفَس وسياق حراك 2011، وتكريس جديد للسلطوية في أوضح صورها”.
ويرى أرسلان أن ذلك يؤكده سياق خاص “كالاستعمال الواسع للمال، والتدخل بأشكال متنوعة في النتائج، والنفخ المفضوح في نسبة التصويت”، كما يؤكده سياق عام “جرى تشكيله تحت سطوة القمع وترهيب صحافة التشهير”، وهو سياقُ الهجوم الشرس على الحقوقيين والإعلاميين والناشطين واعتقالهم وسجنهم، والاستنزاف المتواصل لجيوب المغاربة المنهك، ومنه الزيادات الأخيرة في مواد غذائية أساسية، واستغلال ظرف كورونا لبث وترسيخ المزيد من مظاهر وإجراءات ومساطر تغول السلطوية والاستبداد.
فساد منظومة الحكم
لسنا ممن يشغله الثانوي عن الرئيسي، ولا ممّن ينخدعون بالضخ الإعلامي المكثف -يقول الأستاذ أرسلان- فينجرون إلى التفاصيل الهامشية الحاجبة لحقيقة الصورة، فلا تخدعنا النتائج التفصيلية، بما فيها السقوط المدوّي لحزب العدالة والتنمية، بل إننا ننظر في السياق السياسي العام، ونشير إلى انحراف المنظومة وفساد النظام، وهو ما يرسّخ قناعتنا ويؤكد صحتها من هذا المسار العبثي.
واسترسل موضحا أن الانتخابات كما تجري في البلاد الديمقراطية حقّا، هي أولا وسيلة للتداول السلمي على السلطة، وهي ثانيا تعبير حر عن الإرادة الشعبية، وهي ثالثا انتخابات نزيهة شفافة بعيدة عن أيدي التلاعب والتحكم. هذه هي الانتخابات التي نؤمن بها وندعو إليها، “أما انتخابات المخزن فهي كما يصفونها هم أنفسهم “لعبة”، ولكنها لعبة قاتلة للسياسة ولمصداقية العمل السياسي.”
من يُنتخب لا يَحكم
وحول سؤال مرتبط بإمكانية مراجعة موقف عدم جدوى المشاركة في الانتخابات، أوضح أرسلان أن باحثين جادّين مغاربة وأجانب، يرون “أن الانتخابات المغربية تفتقد إلى رهان سياسي حقيقي، وأن دورها يبقى شكليا وهامشيا في تشكيل خارطة السلطة. لأن من يُنتخب لا يَحكم، ومن يَحكم لا يُنتخب!”
ووفق هذا المعطى الراسخ في المغرب منذ الاستقلال المنقوص، شدد المتحدث على أنه “لا يبقى معنى ولا حقيقة لشيء اسمه التنافس السياسي ولا البرامج الانتخابية ولا الوصول إلى السلطة لتطبيق البرنامج ولا ربط المسؤولية بالمحاسبة…”.
وللاستدلال على ما ذهب إليه طالب أرسلان “النظر في المآلات والنتائج التي وصل إليها الراغبون في الإصلاح والتغيير من داخل المؤسسات الرسمية، ومساءلة ذلك وِفق وعودهم وآمالهم وطموحاتهم التي انطلقوا منها. إننا نجد تأكيدا مطّردا لمقولة أنهم “يتغيَّرون ولا يُغيّرون”، لأن الإشكال يتجاوز مسألة برامج ومشاريع، وحتى إرادات، إلى بنية مخزنية تريد مساعدين لها منفذين لسياستها التسلطية لا حكاما فعليين تمنحهم صناديق الاقتراع القدرة على إنجاز ما وعدوا به ناخبيهم”.
تنبيه.. انتحار حقيقي
وذكَّر نائب الأمين العام بما حدث سنة 2012، بعد الالتفاف على مطالب الشعب المغربي في حراك 2011، وأوضح أنه في غمرة نشوة خادعة “رأينا أنها انطلت على من نصحناهم مخلصين لوجه الله الكريم، قلنا في رسالة مفتوحة من مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان للإخوة في حزب العدالة والتنمية “إن من الوهم أن يظن أحد أنه أنقذ البلاد و”مؤسساتها” مما جرى عند غيرنا من شعوب الأمة، فالآلة المخزنية -إلى أن يشاء الله الفعال لما يريد- تعمل على الدفاع عن ذاتها واستعمال من تشاء كيف تشاء”، واعتبر أن “الحديث عن المؤسسات وتعددها واختصاصاتها في ظل الحكم الفردي ومشروعه السلطوي الاستبدادي ضربا من الخيال، ونحسب العمل من داخلها وفق شروطه وابتزازه مخاطرة سياسية بل انتحارا حقيقيا”.”
إننا ونحن نستدعي هذا الكلام -يضيف أرسلان- الذي نراه صالحا لتنبيه عموم الفاعلين، وليس مخصوصا بحزب بعينه، ليس غرضنا، علم الله المطلع على السرائر، إلا أن يتنبّه الجميع إلى خطورة الإصرار على مسار عطّل البلد ورهن شعبه ومقدراته في قبضة الاستبداد والفساد، وليس هدفنا إلا أن نلتف جميعا على إرادة جادة حقيقية لتغيير حالنا شعبا ودولة.
خيار المقاطعة يتعزز شعبيا
وجوابا على من يقول إن أطروحة المقاطعة بدورها لم تقدم شيئا حالها حال المشاركة الانتخابية، وبقيت مجرّدة لم تقارب واقع الناس؛ أكد نائب الأمين العام للجماعة أن الانتخابات باعتبارها الآلية الرئيسة للتداول على السلطة وتدبير الاختلافات وتمثيل المواطنين، “هي خيارنا ما توفرت شروطها الضرورية وما كانت تؤدي هذه الوظائف الأساسية”، مردفا أنه في المغرب، ولأن الانتخابات شكلية ولا تؤدي وظائفها، “فإن المقاطعة كانت دائما خيارا سليما وقراءة صحيحة للتعاطي مع الواقع السياسي، لكنها أصبحت مع توالي المحطات الانتخابية خيارا أقوى وأصلب وأرجح في ظل الشروط التي تُجرى فيها”. مضيفا “بل الملاحظ أنه خيار يتعزز ويتوسع شعبيا، إلى الحد الذي أضحى يُحرج “المؤسسات المنتخبة” ويحرمها من شرعية التمثيل.”
فما يلفت النظر في هذا الخيار هو أنه شعبي ويطوّر من وسائله وآليات اشتغاله، وقد استفاد من وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، رغم التضييق المخزني والرقابة السلطوية التي تتهدّد المقاطعين ونشاطهم، يضيف أرسلان.
وأبرز أن هذا خيار المقاطعة الانتخابية ليس طارئا على ساحة الفعل السياسي في حركة الأمم ونشاط الدول، كما يردّد بعضهم، بل إنه مسلك مركزي في ظل الأنظمة الاستبدادية، يُفضي -إن ترسّخ شعبيا ونضاليا ونضج سياسيا وتنظيميا- إلى تغيير الأوضاع وتبديل الشروط والتأسيس لممارسة سياسية رشيدة ذات معنى وجدوى. “ومن ثم فالمقاطعة موقف سياسي، مبني على تحليل الأوضاع القائمة دستوريا وسياسيا، وترجيح الخيار الأمثل للتعاطي مع إرادة الاستفراد والاستحواذ”.
واعتبر المتحدث أن مفاهيم المقاطعة الانتخابية، والمغالبة الأهلية، والتدافع السياسي المدني السلمي، والتغيير من خارج المؤسسات الرسمية… كلها “أفكار جارية في الفكر السياسي وفي منهج السياسيين والمصلحين في مختلف البلاد والمراحل”. مردفا أن “الغرابة كل الغرابة فيمن يرى أن هذا الخيار مثالي وحالم ولا أساس له ولا يقدم شيئا”. وكأن مقررات العلوم السياسية لا تدرس لطلبتها التحولات الكبرى التي أحدثتها مقاطعة الأنظمة المستبدة في بلدان الشرق والغرب، وكأن لا خيار غير المشاركة في انتخابات لا تُفضي إلى شيء ولا تَخرج عن تحكم السلطة، ويا ليت هذا الخيار قدّم ما يشفع له من نتائج؛ سواء في شقها السياسي من حيث الدمقرطة والتخليق، أو في شقها الاجتماعي والحقوقي من حيث الحرية والكرامة. يقول أرسلان.
حركة الشارع تُقدّم مكاسب أكبر
ولفت الأستاذ أرسلان إلى أن من في الزاوية الضيقة، وعليه حقا تبرير اختياره السياسي، هم دعاة المشاركة لا دعاة المقاطعة. ألم يُجرِّب هذا المسلك جزء من اليسار وجزء من الإسلاميين وأحزاب هي من سلالة الحركة الوطنية ومستقلون… فماذا تغير؟ يتساءل.
وأضاف قائلا: “ما الذي قدّمته لنا هذه الأحزاب السياسية حين سلكت هذا المسار؟” ومن جهة ثانية تساءل: “ألم تقدّم حركة الشارع المُقاطعة للّعبة الرسمية مكاسب نضالية وسياسية واجتماعية كان أبرزها حراك 2011 وما تبعه من تعديلات دستورية وسياسية، يعتبرونها هم أنفسهم إيجابية، ولكن المشاركين ضيعوها حين فسحوا للسلطوية طريق العودة من جديد؟”.
وجدد أرسلان دعوته إلى الاشتغال الجاد لكل الأحرار الرافضين للوضع العبثي السائد، “من أجل إيجاد صيغ تنظيمية وحدوية فاعلة وقوية، تُشكّل الوعاء السياسي الصلب لليقظة الشعبية المتنامية الرافضة للمسار الرسمي الذي يمضي نحو مزيد من التدمير الاجتماعي والتخريب السياسي”. أضاف قائلا: “نبني مسارنا التدافعي السياسي المدني السلمي هذا، على برنامج حدّ أدنى هدفه الأساس مواجهة السلطوية، وتطوير الخيارات البديلة ومداخلها. برنامج ينخرط في الإعداد له الأحرار على اختلاف مشاربهم وقناعاتهم، المصطفون دفاعا عن مجتمعهم رغم كل الوعيد والترهيب الذي يتهدّدهم”.