قال تعالى: وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ (1).
يشاء الملك الوهاب، فيولد لأحدنا بنيّة، ويُرزق حبّها.
يوما بعد يوم يكبر هذا الحب وتصبح العلاقة بينهما أقوى وأمتن.
وها هي ذي – يا أخي – ضيفتك الجديدة تنفث سحرها الأخاذ في الأوساط؛ تأسر القلوب، وتستأثر بالاهتمام.
ها أنت ذا تشتاق إليها إن خرجْتَ، وتحنّ إليها إن غِبْتَ..
وتمضي الأيام سراعا.. فإذا الصغيرة العاجزة قد أضحت تستقبلك عند الباب بعظيم الترحاب.. فتحملها بين ذراعيك، وتضمها إليك. تشمها وتشمك، تقبلها وتقبّلك، تحدّثها وتحدّثك.
ها هي ذي ترجّل شعرك، وتنتظرك لتسجد في الصلاة حتى تمتطي ظهرك، تنتظرك أن تضع حذاءك فتقحم فيه قدميها الصغيرتين، وحينما تقول لها: ماذا تفعلين؟ تفرّ هاربة بأقصى سرعة وهي تضحك ملء فيها.
ما ألذّها من لحظات، وما أجملها من سويعات..
وعلى حين غفلة منك.. تعدو السنون عدوا سريعا.. فإذا صغيرتك قد أصبحت عروسا يتودّد إليها الخطّاب ويتنافس على الزواج منها العزاب. فتفاجأ يوما بطرق على الباب. تفتح فإذا شاب أنيق صحبة أبويه، يحمل باقة ورد بين يديه، يقدمها لك ويقول لك عمّي جئناك ضيوفا. ترحّب بهم وتدخلهم وتكرمهم، ثم بعد كأس الشاي يتكلم الأب في صميم الموضوع وسبب الزيارة، ويقول: يا سيدي جئناك نطلب ودّك، ونخطب منك على سنة الله ورسوله ابنتك. ما تملك أن ترفض ولاسيما إن كان الخاطب ذا دين وخلق، “إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض” [1]، و لو أتاك ليأخذ منك ابنتك من غير هذا الوجه لقاتلته عليها حتى يهلك أحدكما. إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُون.
بعد استخارة واستشارة، وظهور إشارة أو بشارة.. تقيم لها حفلا، وتدعو خلانا وجيرانا وأهلا.. تأكلون وتشربون وتضحكون.
وبعد نهاية العرس يأخذ صهرك ابنتك ويذهب.. والله سبحانه عز وجل وحده يقرّر مرساها ومستقرّها؛ أتراها تبقى في المدينة نفسها؟ أتراها في البلد نفسه؟ أتراها تذهب إلى قارة غير القارة التي أنت فيها؟ هذا علمه عند رب العالمين سبحانه.
وتعود إلى البيت مهموما محزونا.. تجلس على كرسي مطأطئ الرأس، فتسيل الذكريات عليك سيل العرم، وتفعل بك ما تفعله رياح الخريف بأوراق الشجر؛ تقذف بك تارة ذات اليمين، وترميك تارة ذات الشمال.
تتذكر يوم ولادة ابنتك.. يوم عقيقتها.. يوم نطقها أول كلماتها.. يوم نادتك أبي..
تتذكر يوم خطت أول خطواتها.. يوم سقطت فآلمك سقوطها.. وحين جرحت فآذاك جرحها.. تتذكر ليلة مرضها حينما بتّ ساهرا تتململ، كأنما أنت المطروق دونها بما طرقت به دونك فعينك تهمل…
تتذكر يومها الأول في المدرسة، وكيف فارقتها وهي تبكي وأنت لبكائها تبكي.. تتذكر أعوامها الأولى حينما كانت تعود مفعمة بالحيوية والنشاط لا تكاد تسكت من الحكي عن معلماتها وزميلاتها.. تتذكر نجاحها وفرحتها.. وتتذكر إخفاقها وبكاءها..
تتذكر دلالها.. ضحكتها.. جلستها.. حديثها.. اهتمامها بك.. عطفها عليك.. توددها إليك.
تتلبّد سماء عينيك، وتكاد تمطر.. فتقوم إلى الحمام على عجل حتى لا ينفضح أمرك، ويظهر أمام أهلك ضعفك.
تدخل الحمام، وتفتح الصنبور حتى تشوش على الأسماع، وترخي العنان لعينيك؛ فتبكي وتنتحب حتى يشفى غليلك ويذهب ضيمك ثم تتوضأ وتخرج.
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُون
قبل سنوات قطفت زهرةً من قلب أبويها.. وها قد جاء الدور عليك.. وأتى من قطف منك زهرتك.
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُون
أخي الحبيب..
مهما بلغ حبّك لابنتك.. مهما بلغ تعلّقكما ببعضكما.. مهما كانت علاقتكما قوية ومتينة فإنها أبدا لن تبلغ ما بلغته علاقة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالزهراء عليها السلام.
تلك كانت آية من آيات الجمال والكمال.. فاللهم صلّ على النبي والآل.
كان انتقال الزهراء عليها السلام من بيت أبيها إلى بيت زوجها مؤلما لها ولأبيها، ولئن كان من شيء يسلّيها فهو وجود أختها أم كلثوم وزوجتيه السيدة سودة والسيدة عائشة رضي الله عنهن إلى جانبه. ولئن كان من شيء يسلّيه -عليه الصلاة والسلام- فهو انتقالها إلى بيت جدتها.
سيقول قائل: عن أي جدة تتكلم؟ .. أو ليس قد ماتت أم النبي صلى الله عليه وسلم؟
أقول: نعم ماتت أمّه التي ولدته آمنة بنت وهب، لكن في هذه الفترة التي أنا بصدد الحديث عنها كان لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أربع أمّهات على قيد الحياة:
الأولى هي ثويبة أمة أبي لهب، وهي أول من أرضع الحبيب صلى الله عليه وسلم. والثانية هي “أم أيمن” بركة بنت ثعلبة الحبشية مولاته وحاضنته. والثالثة هي حليمة السعدية مرضعته. وأما الرابعة فهي فاطمة بنت أسد الهاشمية. زوج العم أبي طالب وأم سيدنا علي -رضي الله عنه-. هذه المرأة العظيمة التي كان مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يُكنّ لها حبّا كبيرا واحتراما وتقديرا. المرأة التي لا يمكن له صلى الله عليه وسلم أن ينسى جميلها وإحسانها. فحينما ماتت أمه السيدة آمنة تركت النبي -عليه الصلاة والسلام- وحيدا عمره ستة أعوام، سخرت له العناية الربانية جدّه عبد المطلب فضمّه إليه وأولاه العناية والاهتمام، لكن ما إن مضت سنتان حتى رحل الجدّ عبد المطلب إلى دار البقاء، وهنا تسوق له الألطاف الإلهية عمّه أبا طالب ليكفله.
استقبلته في البيت هذه السيدة الفاضلة فاطمة بنت أسد – رضي الله عنها – وقاسمته طعام صغارها، وأفاضت عليه من حبّها وحنانها، وأعطته من دفئ الحضن ما كان يحتاجه طفل ذو ثماني سنوات.
عاملته كأم لا كزوج عمّ.. ولذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عنها: “هي أمي بعد أمي” [2].
سيمكث معها النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة سنة. من سن الثامنة إلى سنّ الخامسة والعشرين حينما سيتزوج أمنا خديجة رضي الله عنها، ما رأى منها شيئا يسوؤه قط، بل يتذكر لها صلى الله عليه وسلم أنها كانت تؤثره ببعض الطعام على عيالها.
فانتقال السيدة فاطمة عليها السلام من بيت أبيها إلى بيت زوجها كان كأنما انتقلت من بيت أبيها إلى بيت جدتها، فالسيدة فاطمة بنت أسد رضي الله عنها كان لها أربعة أولاد ذكور: طالب وعقيل وجعفر وعلي؛ أما طالب وعقيل ففقد كانا ما زالا على الكفر وأما سيدنا جعفر فكان قد هاجر إلى الحبشة ولم يأتي إلى المدينة إلا في العام السابع حينما فتحت خيبر، وبقي معها ابنها الأصغر سيدنا علي رضي الله عنه، فهاجرت وسكنت معه.
ستعيش الفاطمتان معا سنتين في حب ووئام وانسجام تام. ولم تسجّل كتب السيرة أو الحديث أو التاريخ أيّ سجال ولا جدال ولا نزال بين المرأتين.. لا خداع ولا صراع ولا نزاع.. لا مناورات ولا مؤامرات ولا مراوغات. بل على العكس من ذلك عاملتها هذه مثل أمها، وعاملتها الأخرى مثل ابنتها. ولم يكن بينهما ما نسمع من حروب بين الحماة وكنّتها.
في العام الرابع الهجري سترحل السيدة فاطمة بنت أسد رضي الله عنها عن الدنيا مخلفة ألما كبيرا في قلوب محبيها وعلى رأسهم مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خصها بعناية يوم دفنها حتى أنه أعطاهم رداءه ليكفنوها فيه وأنه صلى الله عليه وسلم نزل في قبرها.
حينما ماتت السيدة فاطمة بنت أسد في العام الرابع الهجري، رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعود السيدة فاطمة عليها السلام إلى جواره لكنه استحيى أن يطلب ذلك من سيدنا حارثة بن النعمان رضي الله عنه وهو الذي كان يملك بيوتا مجاورة لبيوت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وللمسجد النبوي. علم حارثة بن النعمان بالأمر فأتى رسول الله، وقال له: يا رسول الله بلغني أنك تريد أن تأتي بالسيدة الزهراء إلى جوارك، ووالله يا رسول الله ما تأخذ من مالي لهو أحب إلي مما تترك، فتناول له حارثة بن النعمان عن بيت آخر من بيوته كما كان يفعل إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وانتقلت الزهراء إلى جوار بيت أبيها، لا يفصل بيتها عن بيت عائشة إلا ممر صغير، وفي هذا البيت الصغير ستشهد الدنيا مجدّدا من عظيم العلاقة بين أب وابنته ما يبهر العقول ويحيّر الألباب. فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا خرج لغزو أو سفر جعل فاطمة عليها السلام آخر من يودّع، وإذا عاد من غزو أو سفر صلى ركعتين في المسجد ثم يبدأ بفاطمة –عليها السلام- قبل زوجاته.
كان إذا خرج إلى المسجد مرّ عليها فسلّم، وإذا عاد مرّ عليها أيضا.. وكانت عليها السلام لا يحلو لها طعام إلا إن كان أبوها صلى الله عليه وسلم جالسا على مائدتها، ولاسيما إن كان طعاما مميزا.
و“كانت إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قامَ إليها فأخذَ بيدِها وقبَّلَها وأجلسَها في مجلسِه وَكانَ إذا دخلَ عليها قامت فأخذت بيدِه فقبَّلتهُ وأجلستهُ في مجلسِها” [3].
ذكرت يوما هذا الحديث في جمع من الناس فقال لي صاحب البيت بكل أسى وحزن: ها هم عندي – يقصد أولاده – لا أحرمهم شيئا، فينزل أحدهم من الطابق العلوي فيجدني جالسا على مائدة الطعام فوالله ما يقول لي السلام عليكم. فتبسمت ضاحكا وقلت: رضي الله عن أمنا عائشة فلقد كانت عالمة حكيمة لبيبة.. تتبعت روايات حديثها هذا فما وجدتها قدّمت ما كان مؤخرا ولا أخرت ما كان مقدما..
كانت تقدّم دائما فعل المعلّم على فعل المتعلّم.. وكأنما تقول لنا لقد علّمها فتعلّمت، وأدّبها فتأدبت.
يا أخي.. أولادنا هبة الله وصنع أيدينا.
يا أخي.. أولادنا أرض طيبة صالحة للزراعة؛ إن غرست فيها وردا نبت وفاح شذاه، وإن غرست فيها شوكا تكاثر وبلغك أذاه، وإن تركتها بلا غرس جاء من يغرس فيها ما لا تهواه.
يا أخي.. كلّنا راع وكلّنا مسؤول عن رعيته.. فصلى الله وسلّم على سيدنا محمد و آله وصحبه وحزبه.
[1] رواه الترمذي في (النكاح)، باب (ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه)، برقم: 1084.].
[2] المعجم الكبير، الطبراني، (24/351)، رقم: 8 (71) والمعجم الأوسط، الطبراني، (1/152)، رقم: 1 (91) والحلية، أبو نعيم، (3/121)..
[3] أخرجه أبو داود (5217)، والترمذي (3872)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8369) باختلاف يسير عن أمنا عائشة رضي الله عنها..