الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى الآل والصحب ومن والاه.
يقول ربنا عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة: 214).
بعدما كلّم النبي صلى الله عليه وسلم قريشا وفيهم خطب، قام له على الفور عمّه أبو لهب، ساخطا ممتعضا معترضا فتكلم وأساء الأدب، وقال له: “تبّا لك ألهذا جمعتنا”. فأنزل الله عز وجل قوله: “تبت يدا أبي لهب وتب…”.
هذا التصرف الأرعن من أبي لهب، جعل سفهاء قريش يتجرؤون على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فآذوه مرارا وعادوه جهارا، وتآمروا عليه ليلا ونهارا.
ولذلك فبعد خطبته هذه بأيام وبينما هو صلى الله عليه وسلم “قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ وجَمْعُ قُرَيْشٍ في مَجَالِسِهِمْ، إذْ قَالَ قَائِلٌ منهمْ: ألَا تَنْظُرُونَ إلى هذا المُرَائِي أيُّكُمْ يَقُومُ إلى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ، فَيَعْمِدُ إلى فَرْثِهَا ودَمِهَا وسَلَاهَا، فَيَجِيءُ به، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حتَّى إذَا سَجَدَ وضَعَهُ بيْنَ كَتِفَيْهِ، فَانْبَعَثَ أشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وضَعَهُ بيْنَ كَتِفَيْهِ، وثَبَتَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَاجِدًا، فَضَحِكُوا حتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إلى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ – وهي جُوَيْرِيَةٌ -، فأقْبَلَتْ تَسْعَى، وثَبَتَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَاجِدًا حتَّى ألْقَتْهُ عنْه، وأَقْبَلَتْ عليهم تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الصَّلَاةَ، قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بقُرَيْشٍ، ثُمَّ سَمَّى: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بعَمْرِو بنِ هِشَامٍ، وعُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وشيبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، والوَلِيدِ بنِ عُتْبَةَ، وأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وعُقْبَةَ بنِ أبِي مُعَيْطٍ، وعُمَارَةَ بنِ الوَلِيدِ. قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَومَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إلى القَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وأُتْبِعَ أصْحَابُ القَلِيبِ لَعْنَةً” (البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود، وهذه رواية البخاري).
هذه واحدة من صور الإيذاء التي تعرض لها مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاقت معه مرارتها أسرته الشريفة، ولملمت جراحها الغائرة فاطمة الصغيرة عليها السلام…
أو تظنون أن هذا الدين وصلنا فوق أطباق الذهب مغطى بمناديل الديباج؟
لا والله، ما بلغنا هذا النور إلا فوق جثث الشهداء عظيمي الأجور. أولئك الذين كتبوا قصة الإسلام بدمائهم الزكية… وضحوا بالأنفَس والأنفُس في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، وما وهنوا ولا خانوا، وما باعوا ولا ضيعوا ولا طبّعوا.
أيها المشاهدون الأعزاء؛ أتشعرون مثلي بتلك الغصّة المريرة التي أحست بها فاطمة الصغيرة، فتاة في عمر الزهور ترى أباها ساجدا وفوق ظهره الشريف فرث ودم وسلا جزور… وسفهاء خبثاء يتضاحكون من النشوة والسرور؟
هل أحسستم بنار الظلم التي تشوي الصدور، وسيف الجور الذي يقسم الظهور؟ ولا سيما حين يقع هذا الظلم على أحبّ الناس إليك؟
ستمضي الأحداث سراعا، وسترى فاطمة الصغيرة من إيذاء قريش لأبيها أنواعا.
ستوظف قريش ذبابها وأبواقها وستستخدم منابرها الإعلامية للتشويش على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وللإساءة إلى شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فتارة يقولون هو كاهن أو ساحر، وتارة يقولون هو مجنون أو شاعر ، وتارة يقولون بل هو كذاب أشر…
وبالإضافة إلى هذا العنف اللفظي، لم تتورع قريش عن العنف الجسدي في حقّ مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتارة يضعون التراب على رأسه، وتارة يرمون الأزبال على جسده، وتارة يرمون الأشواك في طريقه وعند باب بيته، ناهيك عن التهديد والوعيد… وما يحاك في السر من مؤامرات الغدر والاغتيال.
كانت فاطمة الصغيرة عليها السلام شاهدة على كلّ هذا البغي والإجرام، بل وكانت تنال حظها من آلامه النفسية القاهرة وجروحه القلبية الغائرة…
بعد ثلاث سنوات من الإيذاء الذي لم يُجْد نفعا ولم يُحقق هدفا، بل على العكس هذه الدعوة الجديدة كانت تتوسع أكثر، وينضوي تحت لوائها المزيد من الناس. قررت قريش اللجوء إلى خطة دنيئة تخالف كل الأعراف والقيم القبلية وستحصار الجماعة المؤمنة وكل من ساندها أو انحاز إليها حصارا اقتصاديا واجتماعيا لا مثيل له.
وحتى يعطوا لجرمهم هذا شرعية فقد اجتمع سادة القبائل جميعا وتعاقدوا وكتبوا بذلك صحيفة غاشمة، وليضفوا عليها شيئا من القدسية علقوها بسقف الكعبة.
استمر هذا الحصار ثلاث سنوات اضطر المؤمنون ومن ساندهم من المشركين أن يأكلوا الجلود ويقتاتوا على أوراق الشجر، وتضوع الأطفال جوعا حتى سمع بكاؤهم وأنينهم وحن لهم أعداؤهم.
كانت فاطمة الصغيرة عليها السلام شاهدة على كل هذا، شهود من حضر لا شهود من نظر، عانت كما عانوا، وأنّت كما أنُّوا، وجاعت كما جاعوا… وخرجت من هذا الرباط المبارك هزيلة الجسم لكن قوية الإيمان والعزم مرفوعة الرأس والجبين.
ألم أقل لكم بأنها ستكون حاضرة في كل محطات الجهاد المبارك؟ ألم أخبركم أنها ستكون رفيقة درب أبيها إلى آخر نفس؟
نعم؛ هي فاطمة، ما وجدت إلا لتعيش مع أبيها كل لحظات هذه الدعوة الميمونة المباركة.
هل ينتهي جهادها وصبرها ومصابرتها هنا؟ هذا ما سنعرفه في قابل الحلقات.
وصلى الله وسلم على سيد الكائنات وعلى أزواجه أمهات المومنين الطيبات الطاهرات، وعلى الصحب الكرام أولي المكرمات.