تفاعلا مع فكرة كثيرا ما يروج لها بعض الحقوقيين؛ مفادها أن الدين فردي ولا دخل له في السياسة، نشر الأستاذ عبد الرحمان خيزران تدوينة على حسابه بفيسبوك، الثلاثاء 10 نونبر 2020، هي “أفكار، بنات لحظتها وليست وليدة بحث معمق، طرحتها تفاعلا، في هذا الفضاء الأزرق، مع إحدى الحقوقيات الفاضلات..” يوضح الكاتب.
ونظرا لما حملته التدوينة من نقاش هادئ ورزين يؤسس لتواصل مثمر، تحتاجه كل مكونات المجتمع من أجل بناء وطن يسع جميع أبنائه، ويكفل حرية التعبير لجميع أطيافه، مع مراعاة أدبيات الاختلاف والمناقشة بالحسنى، نورد نصها كاملا:
– 1 –
مع احترامي لشخصك الكريم، كيف أن “الدين فردي”؟
كل التعاليم والشعائر والشرائع والآيات الصريحة التي جاء بها الدين، أتحدث هنا أساسا عن الإسلام، تقول أن “الدين جماعي”.
فالله الذي أنزل الدين يخاطبنا بلسان الجماعة: “يا أيها الذين آمنوا”، والصلاة التي هي عمود الدين تصلى في جماعة (وصلاة الواحد منا في هذه الجماعة تفضل صلاته منفردا بسبع وعشرين درجة كما في الحديث)، والإسلام نظم العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين الأفراد؛ فنهى عن الظلم والنميمة والغيبة وأكل مال اليتيم واحتقار المرأة، ودعا إلى توقير الكبير وتوجيه الصغير… وكل ذلك لا يحدثه الواحد منا مع نفسه بل مع غيره في علاقات متعدية، وحث هذا الدين المجتمع على تشكيل نواته الصلبة بعلاقة شرعية (يفترض أن تتأسس على حب واقتناع واحترام ومودة ورحمة) تجمع رجلا وامرأة يبنيان أسرة فاعلة إيجابية، فهو هنا أيضا ينظم علاقة جماعية، ناهيك عن القيم المركزية الكبرى لهذا الدين في السياسة والاقتصاد والعلاقات بين الأمم والشعوب… فكيف أن “الدين فردي”؟
– 2 –
لم يعزل الإسلام نفسه في محاريب المساجد وفي نفوس المؤمنين به، وإنما جاء ليكون له حضور في الفضاء العام؛ في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، في نظام القيم وفي تشريع القوانين، في الأنفس وفي الآفاق، ولذلك جعله المولى الكريم دينا خاتما وعاما وصالحا للناس.
وحين نقول أن للدين، باعتباره عقيدة وشريعة وليس عقيدة فقط، علاقة وثيقة بالسياسة، فهذا لا يعني أن له رأيا تفصيليا على مستوى نصوصه المؤسسة (القرآن والسنة) في كل صغيرة وكبيرة من قضايا الناس في كل عصر ومصر، وإنما يعني أنه يعطي بوصلة واضحة وقيما عليا وتوجهات كبرى للأمة التي تحمله وتعتنقه، لتعمل في ضوئه وتجتهد في ظله وتبدع وتبتكر وتشتغل وتتقدم بعقلها الخلاق تحت جناح وحي ربها الكريم. ولم يكن للإسلام إلا أن يعطي للعقل مساحته المعتبرة وللإنسان حريته التامة، بعد أن منحه قيما عامة وتشريعات أساسية.
وبقدر ما يؤمن كل عاقل بقيم كونية إنسانية، أسهمت الكثير من الحضارات في التأسيس لها، منها الحرية والعدل والكرامة الآدمية واحترام معتقدات الغير ورفض الظلم والتنادي إلى الحوار والتعاون ونبذ الصراع… بقدر ما يدافع كل عاقل أيضا عن الخصوصيات الثقافية والدينية لكل شعب وطائفة وعرق، ويرفض صيحات القولبة والتنميط الذي تدفع إليه النيوليبرالية والأحادية العولمية التي لا ترى في العالم إلا سوقا أو بشرا تُبَّعا للنمط الحضاري الغربي.
وهنا، لا أرى تعارضا بين أن يكون للدولة إطار مرجعي ديني، وبين أن تحفظ للأقليات الدينية الأخرى حقها التام في المواطنة والحقوق، بقدر ما لا أجد تعارضا بين الأخذ بالقيم الإنسانية الكونية المشتركة (التي أجدها بالمناسبة من صميم ما يدعو إليه ديني) وبين أن يكون لنا – مجتمعا ودولة – هوية صريحة ودينا نعتز به، له رؤيته للإنسان والعالم والكون والحياة والمآل.
بقي أن أشير؛ أن الأعطاب التاريخية والواقعية الكثيرة التي اعترت محاولات تجسيد الأطر والقيم المرجعية الإسلامية العليا، لا تعني أن الخلل في هذه الأطر والقيم، في بعدها التجريدي، بل يكشف مع الأسف الأغلاط التي وقع فيها معتنقوها دولا وحكومات وأفرادا عبر تاريخ المسلمين الطويل.
وهو الإقرار الذي يقول به الكثير من المسلمين دون مركب نقص، ليتبعه البحث في أسباب ذلك، والانطلاق في العمل مجددا، لنتمثل حقيقة هذا الدين العظيم.
– 3 –
وهنا ثلاث قضايا مهمة.
الأولى، وقد أشرت إليها سلفا، وهي أن فشل تجارب المسلمين، لا يصلح حجة لمساءلة الدين في ذاته، بل لمساءلة المسلمين. وهو ما قلت أنه صحيح، ينبغي الاشتغال عليه كي لا نقع مجددا في نفس الأخطاء (الأطروحات، أقبل تجاوزا أن أسقط هذا الوصف على الدين من أجل التواصل، نسائلها أولا في بنيتها النظرية ونصوصها المؤسسة وتصوراتها المجردة، ثم ننظر في مدى تطبيقاتها نجاحا وفشلا. المعول عليه أساسا أثناء التفتيش في صلاحيتها هو المستوى الأول، أما المستوى الثاني فموجود في كل الأطروحات).
الثانية: هي هذه الاختلافات الكثيرة والكبيرة بين فرق ودول وطوائف جميعها تدعي تمثيل الإسلام، وهو فعلا تحد كبير يحتاج إلى تنظيم وتجويد وتجاوز. ولكني شخصيا أفهم أن الإسلام يتمثّله التيار الوسطي العام في الأمة، وهو عموم المسلمين أفرادا ومجموعات وعلماء يتصفون بالاتزان والاعتدال، يتشبثون بدينهم ويحترمون اختيارات غيرهم، بعيدون عن التعصب والتشدد، بعيدون عن التنكر لدينهم الذي ارتضاه لهم ربهم… ومن اللافت هنا أن ثمة مساحة معتبرة للاختلاف المحمود، خاصة أن مساحة القطعيات والثوابت ضيقة إذا ما قارناها مع الظنيات والمتغيرات، وذلك حتى يستدمج الدينُ ثقافات وأعراف وتمايزات الناس في إطار عام موحد دون أن يجعلهم نسخا وقوالب متشابهة (بالطبع حركات العنف والإكراه والقتل لا تمثل ديننا، بل الغريب أن المسلمين هم المتضرر الأول منها. ولعله لا يخفى عليك صراع الكبار وتدخلات المخابرات الدولية في توجيهها والتحكم فيها).
الثالثة: أنا أومن أن الإسلام أراد من أمته أن تؤسس دولة، وحين نقول ذلك لا يعني بتاتا وقطعا أنها دولة دينية بمعنى كهنوتية؛ يستمد فيها الحاكم حق حكم الناس من الله أو هو خليفته وظله في الأرض، هذا القول يعارض ما تصبو إليه معظم الحركات الإسلامية التي تدعو لدولة مدنية بمرجعية إسلامية.
وحين نقول ذلك فإننا نعني أنها دولة سيادة الشعب أولا، أي أنه يختار طواعية وبإرادة حرة حاكمه ولا يفرض عليه وراثة أو بسلطة الحديد والنار أو بسلطة الدين (هل سبق سيدتي أن سمعت بمبدإ إسلامي أصيل يسمى “التَّأَمُّر في الأمير” أي التَّحَكُّم في الحاكم، الذي يُعدّ أجيرا عند الأمة التي هي سيدة نفسها تبقيه أو تعزله؟). وتعني أيضا أنها دولة قانون ودستور وتعاقد. وأنها دولة هدفها الأساس تحقيق العدل الاجتماعي والاقتصادي وحفظ الحقوق، وإلا فإنه لا علاقة لها بما أراد رب الناس للناس. وأنها دولة مؤسسات وفصل للسلط… ألا ترين إذا أننا نقتسم مع الديمقراطية الكثير من القواسم والقواعد؟
وهي مع كل هذه القواعد، التي ينادي بها كل الأحرار الشرفاء أمثالك، هي أيضا -الدولة كما يريدها الإسلام (حسب فهمي دائما)- حريصة على القيم والثقافة والتربية والتعليم لتكون منسجمة مع تعاليم الإسلام، التي تريد من معتنقي هذا الدين عبادة ربهم وعمارة الأرض بالخير والسماحة والحضارة، مع احترام هذه الدولة لمن لا يعتنقون دينها لحقهم التام في اعتناق ما يريدون وفي ممارسة عبادتهم وفي مواطنتهم الكاملة.
أجدد احترامي لوجهة نظرك، وأدعو نفسي وإياك سيدتي إلى المزيد من تعميق النظر في الدين من حيث كنهه وطبيعته وما يريده منا أفرادا وجماعات، وفي التجارب الإنسانية وما يمكنه أن نستفيد منها. وأسأل الله لي ولك كل خير في الدنيا والآخرة.