“هذا لا يعبر إلا عن اللحمة التي تجمع بين المغاربة، وكيفما كانت الظروف فإنها لا تستطيع التفريق بينهم”، بهذه العبارة عبرت “ليلى” عن فرحتها بما تراه عينها من مساعدات غذائية وأفرشة وألبسة تكومت في “ساحة مرجان” بأحد مناطق مدينة الدار البيضاء في الساعة التاسعة ليلا من يوم الثلاثاء المنصرم.
شيء لا أستطيع التعبير عنه
صاحبة التسعة والعشرين ربيعا، رفضت التصوير لكنها قبلت الحديث إلى الميكروفون بصعوبة، أرادت التعبير عن إحساسها في تلك اللحظة، حاولت أن تقول شيئا ما بلسانها تجاه ما ترى من توالي المساعدات قبل تصفيفها بشكل محكم في شاحنات نقل البضائع لكنها لم تستطع، ثم استعانت بحركات أيديها وقسمات وجهها، لتقول في النهاية “شيء لا أستطيع التعبير عنه”.
وبعد ذلك تتحدث بلغة متأثرة وهي تغالب دمعتها فتقول: “أن ترى هذا الكم من المساعدات من أجل المنكوبين في الزلزال، فهو شيء رائع جدا، هذا هو المعدن الحقيقي للمغاربة، الذين لا يعرفون على حقيقتهم إلا في وقت الشدائد”.
ثم استرسلت في كلامها وكأن العقدة انفكت عن لسانها فتشير إلى أن المغاربة يُربون في عائلاتهم منذ الصغر على قيم التآخي والتضامن، وذلك ليس غريبا عنهم، لكنها لاحظت أن هذه القيمة بدأت تنمو بشكل أكبر مع هذا الجيل.
لاحظت “ليلى” أنها لم تعد مرتبكة أمام الميكروفون فقادها حديثها من الكوارث الطبيعية إلى الأحداث السياسية بما يشبه المقارنة، فاعتبرت أن المغاربة فيما يرتبط بالسياسة ليسوا هو أنفسهم فيما يرتبط بالأحداث المؤلمة والكوارث مثل الزلزال، فقالت: “المغاربة تبقى اختياراتهم السياسية حرة وفق وجهات نظرهم إلى الأمور، بخلاف الكوارث الطبيعية التي لا يملكون فيها إلى التضامن والتآخي، لأن الإنسانية والعواطف أسمى، ولا يمكن للسياسة أن تغلب العاطفة”.
الإحساس بضرورة التبرع بصرف النظر عن الظروف الشخصية شيء مميز
الشاب محمد أمين في عامه الواحد والعشرين، كان حاضرا في الساحة متكئا على سيارة أركنها هناك صاحبها بعدما أخرج منها ما جاد به عليه المولى ليرسله إلى المنكوبين في الزلزال. لبث الشاب الوسيم ينظر إلى الوافدين على الساحة وهم يحملون أنواعا متعددة من المساعدات، بدت على وجهه ملامح الرضى والفرح قبل مقاطعة تأمله بسؤال “أنا صحافي أريد أن أسألك بشأن ما ترى، هل تسمح لي بذلك؟”، على الرحب والسعة، قال مبتسما قبل أن أسأله ثانية: “ما الذي تراه مميزا في الحملة التي يتضامن فيها المغاربة مع إخوتهم المنكوبين بفعل الزلزال؟”.
“ما أراه مميزا في حملة التضامن هاته، هو أن جميع الفئات العمرية والمجتمعية، من يملك ومن لا يملك، الغني والفقير، الصغار والكبار، الرياضيون والجمعويون وغيرهم، ترى الجميع يساهم بما يستطيع، وقليلا ما نرى هذا النوع من التضامن الذي لا يستثني أي فئة. هذه رسالة مهمة على أن الحدث جلل وأن المغاربة لبعضهم، والتحامهم لا نقاش فيه. وعندما نرى هاته المظاهر نطمئن على حاضر بلدنا وعلى مستقبله، وعلى وعي الشعب بأهمية ثقافة التضامن”.
ثم سمع الشاب أمين فتاة مرت بجانبنا تقول “الفقراء هنا أحوج إلى هذه المساعدات، والصدقة في المقربين أولى”، فرمقها بطرف عينه، وأتبعها علامة استغراب واستفهام كبيرة على جبينه ثم قال: “أنا رأيت أشخاصا أعرف أنهم فقراء ورغم ذلك فقد تبرعوا لفائدة المنكوبين في الزلزال، وهذا الإحساس منهم بضرورة التبرع لمن ضربتهم كارثة إنسانية بصرف النظر عن ظروفهم هم، هو شيء مهم جدا، وهو شيء مميز أيضا، لأن التبرع في مثل هاته الحالات التي لا تتكرر كثيرا لا يشبه التبرع لفائدة الفقراء الذي يتاح في أي وقت وفي كل مكان، لذلك فلا يصح أن نعمل في هذه الظروف بقاعدة من يقول “الصدقة في المقربين أولى””.
هكذا كان جواب الشاب بلغة رزينة واثقة تعبر عن وعيه التام بما يقوله، وعما يملكه من أفكار قد لا يمكلها كثير ممن في مثل سنه.
ما يرتبط بالقلب يصعب على اللسان التعبير عنه
الحاجة فاطمة في عامها الخمسين عاينت عن كثب هذه الحملة بالساحة ذاتها، التحقت فرأت الشاحنة الأولى وقد فاضت بالمُؤَن المرتفعة فوقها، ويجري ملء شاحنات أخريات على قدم وساق، اقتربتُ منها في غفلة منها، فسمعتها وهي تردد عبارات التبريك بصوت خافت وعلامات الفرح والسرور والحبور تعلو محياها…
انتبهَت إلي وفهمت المقصود منها فطلبتُ الإذن من أجل دردشة إعلامية حول الموضوع فقبلتْ، لكنها قالت كل شيء بدمعتها وشدة تأثرها قبل الحديث، وكأن دمعتها كانت قد طرقت الأبواب وظلت تنتظر من يحررها من قيدها. تحررت الدمعة وأسلست القياد تحتها للسان كي ينطلق.
أعادت ترتيب حجابها الذي يزيدها بهجة ونورا، مثل كل أم مغربية ثم قالت: “اسمع يا ولدي ما يرتبط بالقلب يصعب على اللسان التعبير عنه”، ثم أضافت “أن ترى بأعينك الجميع يساهم بصغيرهم وكبيرهم فهذا يصعب على اللسان أن يعبر عنه، لأنه يشعرك بشعور مختلف تماما”.
الحاجة فاطمة تنحدر في أصولها من نواحي مدينة وارزازات، وفق حديثها ربما ذلك ما يجعلها أمام شعور مختلف حقا، لاسيما وأنها عبرت عن أن منطقتها تلك وصلها صدى الزلزال وتضررت بصورة ما، ربما، لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد، فقد تأملت فيما وصفته بـ”الإنسان المغربي” ونطقته بنبرة خاصة، فخلصت إلى أنه مميز في طبعه وفطرته، وقالت إنه مختلف في وقت الأزمات لأنه ينسى كل الخصومات ويهب للنجدة.
لم تغفل المتحدثة وهي تنظر إلى كل تلك المساعدات في الساحة، أن تترحم على كل الشهداء الذين قضوا نحبهم، وأن تشرح ما يحس به المنكوبون من الزلزال عند كل تلقٍّ للمساعدات المتقاطرة عليهم من كل مناطق المغرب؛ “إنهم يشعرون بأنهم ليسوا وحدهم، يشعرون أنهم ينتمون إلى جسم واحد، جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى كما جاء في الحديث الشريف”.