تنشئة الأبناء في واقعنا المعاصر: إشارات وتنبيهات (1) | القدوة

Cover Image for تنشئة الأبناء في واقعنا المعاصر: إشارات وتنبيهات (1) | القدوة
نشر بتاريخ

من أكبر التحديات التي تواجه الآباء والأمهات، والأمة الإسلامية عموما، تحدي تنشئة الأولاد تنشئة تحفظ وصية الجيل المؤسس؛ جيل الإيمان والإحسان، جيل الوصية الخالدة وَأَوْصَى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (البقرة: 131)، تنشئة تصنع بفضل الله جيل غدٍ فاعلا، جيلا يحمل مشروعا تجديديا يصنع المثال ويفك الرقاب.

لهذا يبحث الآباء والأمهات بصدق وحيرة عن الكيفيات التي تساعدهم في تنشئة أبنائهم وبناتهم تنشئة إيجابية تؤهلهم ليكونوا منسجمين في أنفسهم، صالحين في أوطانهم، وامتدادا لعمل آبائهم بعد انقضاء أجلهم، ذرية مؤمنة صالحة بعضها من بعض، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ (الطور: 21).

ولعل أهم الأسئلة التي تطرح بهذا الصدد: كيف يُعدُّ الأبناء إعدادا كاملا، متوازنا وشاملا، يحقق النجاح والتفوق في الدنيا والفلاح والفوز في الآخرة؟ كيف يكون الولد عملا صالحا لوالديه ولوطنه وللإنسانية؟ وما هي القواعد التي تؤطر هذا الإعداد في واقع معقَّد ومتغيرٍ فيه شركاء متشاكسون؟

قاعدة 1: القدوة وحدها هي علم الحياة

القُدوة والقِدوة في لسان العرب هي: الأُسْوة. يقال: فلان قدوة يُقتدى به، والقدو: القُرب[1]. والنبي صلى الله عليه وسلم أسوة لجميع الخلق في كل خير، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب: 21)، فهو الإمام والمربي والمعلم والشاهد. أسوة كاملة، قرآن يمشي بين الناس، نموذج خالد، نور مبين، سراج منير. فقد “علَّم صلى الله عليه وسلم بالكلمة، وعلم بالقدوة، وعلم بضرب الأمثال”[2]، والقدوة في التعليم والتزكية أبلغ من الكلمة والمثل، وكل من سبق وصدق في خيرٍ ما فهو قدوةٌ فيه لغيره.

الوالد (أُمّاً وأباً) قدوة للولد والحفيد، وكذلك الأخ الأكبر والمعلم والمدرِّب، ولا معنى للقدوة إن لم يكن المقتدَى به محبوبا وقريبا ومؤثرا فيمن يقتدي به، يؤنس بحنانه، ويوجه بخبرته، ويعطي النموذج في الرحمة والحكمة للاقتداء. يقول الشاعر:

وينشأ ناشئ الفتيان مِنا ** على ما كان عَوَّدَه أبُوه

الطفل كائنٌ طري، صفحةٌ غضة نقية، إذ يولد على الفطرة سليما من العُقد والأدواء النفسية والاجتماعية والثقافية، في الحديث النبوي: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه” [3]، يفتح عيني بصره وبصيرته على والديه وأسرته، وأول ما يحتاجه هو القدوة الصالحة الصادقة الخبيرة، يبدأ الصلاح من الأسرة والمدرسة حيث تلتقط الحواس الطرية والذهن البِكرُ اللغةَ والمعنى وطرائق التفكير وموضوعات الاهتمام.

القدوة وحدها تلخص قواعد السلوك النفسي والاجتماعي في الحياة، فلا تخفى أهمية القدوة في التربية والدعوة والإقناع، وأداء الوظائف والأدوار داخل الجماعات، بها يحي الناس، ومنها يتعلمون كيفيات التفكير والتصرف، وهي مثَلهم الذي يتشوفون إليه في السلوك. وفي الحديث “اتَّخذ النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم خاتما مِن ذهب فَاتَّخذَ الناسُ خَواتيمَ مِن ذهبٍ فقالَ النَّبيُّ صلى اللَّهُ عليهِ وسلمَ: “إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِن ذَهبٍ فَنَبذهُ وَقَالَ: إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا” فَنَبَذَ الناسُ خَوَاتِيمَهُمْ” [4]. ذلك أن صورة الفعل أبلغ من صدى القول.

الأب منظورٌ إليه على كل حالٍ؛ في حال فرحه كيف يفرح وما يفرحه وكيف يعبِّر عن فرحه.. فيتشرب منه الولد موقفه وكيفيات تصرفه، بوعي أو بغير وعي. وكذلك في حال الغضب. فلا ننتظر ببلادةٍ مفاجأة القدر ببزوغ جيلٍ جديد دون أن نسعى لذلك بالتخطيط والتربية والتعليم، والله الموفق من قبل ومن بعد. وكأن طفرة في التاريخ تصنع قدرها بيدها في لحظة وجودها، هذا لا يتفق والتربية المضادة تسرق الأجيال من حجور أمهاتهم وتبرمج عقولهم واختياراتهم وتدخلهم جحور ثقافةٍ تمسح العقول وتمسخ الفِطر.

 من خصائص الطفل أنه يتعلم بالفكرة وبالصورة، وبالمثال، ولا يفرق بين المبدإ وبين الشخص. على خلاف الإنسان الراشد الذي يستطيع التمييز بين المبدإ وصاحب المبدإ. فليحذر الزوج أن يفضحه تصرفه ويُسقطه فعله! وليعلم أن تصرفاته مع زوجه مسجلة عليه -والمرأة أيضا مع زوجها- ومُقتدى بها ومفكَّر بمقتضاها. والمربي الناجح مثالٌ حي، أنموذج بشري يمشي على الأرض، وليس مجرد ظاهرة كلامية، يألف ويؤلف، يخالط الناس ويعاشرهم بالمعروف، يحثهم على الخير ويسبقهم إليه، يُحذرهم من المنكر ويتستر عنهم، رفقا بهم حتى يقلعوا عنه بحِلمٍ وأناة. يقول الإمام ياسين: “طفلٌ وطفلة أغنتهما الأسرة، وعلمتهما البذل، وتابعت مسيرتهما من المسجد إلى المدرسة، إلى الجامعة إن كان، إلى النجاح المهني حيث تُنال وسائل البذل، ذلك حق الولد الصالح على الوالدين الصالحين لصنع مستقبل الوَلد عنصراً صالحا في محيطه” [5].

يدخل الوالد على أبنائه من عمله وسفره متهللاً، يحمل البشاشة والهدية بسخاء من غير تبذير، وينفق باقتصادٍ دون تقتير، وفياً بعهوده، لا يعاهد ابنه بما لا يطيقُ فعله، ولا يراوغ فيلقنه الروغان، متواضعا هينا لينا، يُعلم بتواضعه أخلاق الإسلام عمليا، لا يبخس للولد حقه واختياره، أميناً حريصاً على الخير والحق والمعروف، وحليماًمتغافلا عن الخطأ والغلط والهفوة. حذرا من تلطيخ صفاء الفطرة بكدر الشكوك والظنون والمخاوف والأوهام. والطفل فيلسوف بطبعه كما يؤكد جاك لفين (Jacques Lévine)، وأسئلته كما يرى كارل ياسبرز (K. Jaspers) مؤشر على تفلسفه.

مجرد كلام هي التربية والثقافة والتوعية، إن لم تتحقق في البيت المسلم وفي الجماعة المسلمة وفي المؤسسة والعمل وفي الأمة المسلمة قيادات ربانية ميدانية يشع نورها على غيرها قبل أن تنبس ببنت شفة، فإن “الولد الذي يرى والده يكذب، لا يمكن أن يتعلم الصدق، والولد الذي يرى أمه تغش أباه أو أخاه أو تغشه هو نفسه، لا يمكن أن يتعلم الأمانة، والولد الذي يرى أمه مستهترة لا يمكن أن يتعلم الفضيلة، والولد الذي يقسو عليه أبوه لا يمكن أن يتعلم الرحمة والتعاون، والأسرة هي المحضن الذي يبذر في نفس الطفل أول بذوره، ويكيف بتصرفاته مشاعر الطفل وسلوكه” [6]، وقديما قيل: “من شَبه أباه فما ظَلم”، و”كما تدين تُدان”.

لا تـنهَ عن خُلُق وتأتي مثلـه  **  عـارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ

إن لم نقدم لأبنائنا نماذج ناجحة أخلاقا وأعمالا ليقتدوا بها فإنها ستولي وجهها لمظاهر الثقافة السائلة الغالبة الهاجمة علينا في بيوتنا ومؤسساتنا عبر الإعلام المضاد والشارع المتسيب، وتتلقف منتجاتها بلهفة وتسليم. وإن لم نراجع خُططنا التربوية والتعليمية والإعلامية، وقد أمسى باب التفسخ والمسخ مترعا أمام الناشئة، فلا حاجة للشكوى العاجزة والحولقة الباردة فيما بعد.

لهذا يؤكد الإمام ياسين رحمه الله: “يُشجَّع الصبيان والغلمان والفتيات على كل حميدٍ من الخُلق وجميل من الأفعال مما يقربهم إلى الله ويُبعدهم من غضب الله. الصلاة، والقرآن، والرحمة بالضعيف، والنظافة، والصدق، والحياء. الحياء أبو الفضائل، الحياء من أهم شعب الإيمان. الحياء وقاية ذات حدّين: حياء من الله وانكماش عن فعل يكرهه الله، وحياء توقير واحترام وأدب ولياقة. فتلك الفضائل. أو ينقلب الحياء على صاحبه فتصبح العافية داءً، وذلك الخجل، قاتل الفضائل” [7]. وإن لم نفعل فإننا سننشئ جيلا متكلماً من غير عمل، بطَّالاً سبَهْللا، وتلك هي الكارثة؛ كثرةٌ أرنبيةٌ من غير طائلٍ.

إن لم يتأدب الأولاد بآداب الإسلام وأخلاق القرآن فالسُّبل مُتاحة للضياع بين أمواج بحار الانحلال والجحودوالاعوجاج، وقطيعة الأرحام بين الأجيال، وخاصة إذا كان الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يعيشه الشباب مترديا.وإن لم يتوافق الأبوان وينسجما ويتعاونا على إنشاء عُش الزوجية وتنميته وحفظه، فعن أية إرادة نتحدث؟ وأية تربية نقصد؟ يقول الإمام: “ما تستطيع الأمُّ المؤمنة أن تنفرد ببناتها وأبنائها ليقع تأثيرها عليهم لا تشوبُه ولا تحرفه تأثيرات غيرها. أمامها ومن حواليها مؤثرات بشرية تُذْبِل زهرة الأخلاق، وتُعَوِّجُ عود الاستقامة، وتمتص رحيق الأغصان، وتسقي السموم، وتلقِّح بذور الشيطنة” [8].

قال الإمام مالك رضي الله عنه: “لما أرسلتني أُمي إلى التعليم، أوصتني بقولها اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه”، وأدب السيدة “غالية” أمّ الإمام مالك مُقدم على أدب ابنها. وتربية الأبناء من تربية الآباء ومحيط الرُّفقة، جيل مع جيل، وجيل بعد جيل. حاجتنا اليوم إلى برامج لتأهيل الأزواج لتكون الأمومة والأبوة محضنا تربويا فطريا، يعطي المثال من ذاته لا من الكُتب، وخاصة الأمهات صانعات الأجيال، لأن “النساء بفطرتهن يحفظن استمرار الجنس البشري بما هن محضن للأجنة، وحضن للتربية، ومطعمات، وكاسيات ومدبرات لضرورات معاش الأسرة. هن المحضن لأجسام الأنام، والراعيات لحياتهم، والوصلة الفطرية بين أطراف البشرية، والواسطة بين جيل وجيل” [9]. أما إذا كانت الأم عاقة والتربية مضادة مشوهة فسلام على التربية والتعليم والإنسان [10].

بروح مسجدية قرآنية يتصرف لا بنفَس الثقافة الأرضية الغافلة. فـ”التعبئة جهادُ نفسٍ، إصلاح ذاتٍ قبل مناداة غيرٍ. تُعبِّئين أُمَّةً وأنتِ أَمَةٌ للشهوات، أسيرة في شَرَك الدنيا وشِرْك التقاليد والعادات لا تستطيعين تخالفينها! تُربِّينَ بناتِك وأبناءك إن كانت نَفْسُكِ سيدة الموقف لا عقلُكِ المؤمن وقلبُكِ العامر بحب الله وخشية الله! تعبئة أمة قَلْبُ عالم. كيف تقلبين العالَمَ وأنت لما تتوبي توبة الذي ربط نفسه بعمود المسجد لزلة زلها! ربطُ جسم عصَى لتُرْبَط نفسٌ أمَرَتْ بالمعصية” [11].


[1] ابن منظور محمد بن مكرم، لسان العرب، دار الجيل، بيروت، ط1، 1408هـ/ 1988م، مادة: (قدا).
[2] عبدالسلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1996م، 2/ 344.
[3] صحيح مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، رقم الحديث: 2658.
[4] صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 6868.
[5] عبدالسلام ياسين، تنوير المؤمنات، مرجع سابق،  2/261-261.
[6] محمد قطب، منهج التربية الإسلامية، دار الشروق، بيروت، ط1، 1417ه/1997م، 186.
[7] عبدالسلام ياسين، تنوير المؤمنات، مرجع سابق، 2/281.
[8] عبدالسلام ياسين، تنوير المؤمنات، مرجع سابق، 2/234.
[9] المرجع نفسه، 2/90.
[10] عبدالسلام ياسين، الإسلام والحداثة، دار الآفاق، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص 215 وما بعدها.
[11] المرجع نفسه، 2/343.