تلفيق التّهم لتكميم الأفواه.. عبثا تحاولون، إنّا على العهد باقون!

Cover Image for تلفيق التّهم لتكميم الأفواه.. عبثا تحاولون، إنّا على العهد باقون!
نشر بتاريخ

وفجأة سقطت التهمة الشهيرة التي بُني عليها الملف وشكّلت ركنه الأساس، واتكأت عليها رواية السلطة وادّعاءاتها، وأسّست عليها الأذرع الإعلامية للنظام تلبيساتها وتشهيراتها وطعونها… ليُفرَغ الملف، وليُسقَط في أيدي الكائدين، ولتجد السلطة نفسها أمام فراغ مهول، عمدت معه إلى إعادة التكييف والحكم بسنة حبسا. علّه يكون العزاء، وبه يتخفّى المكر والتلفيق وراء “حكم القضاء”. ولكن هيهات هيهات!

بعدما تمّ اعتقال الدكتور محمد أعراب باعسو يوم 31 أكتوبر 2022، وبعد أن استقرت التهمة، التي تاهت ثلاثة أيام، على كبيرة “الاتجار بالبشر”، دبّجنا كلاما هنا في “ولنا كلمة”، اتخذنا له عنوان “اِعْتقل ثمّ اصْنَع التُّهمة.. حين يحكم الغباء”، وكذلك كان.

كان المحرك وراء الاعتقال واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار؛ رجلٌ معروف بانتمائه ونشاطه الدعوي والاجتماعي في مكناس وضواحيها وفي المدن التي استقر بها، خطيبُ جمعة مفوّه يدل الناس على الخير ويحثّهم عليه، ناشط غير خامل فيما همّ الناس ويهمّهم يَفعل فيهم بإيجابية تبث الأمل وتبعث على العمل، ربّ أسرة مستقرة متماسكة تخّرج بنين شامات بين الأقران، صاحب موقف سياسي صريح من الاستبداد الذي جارَ على الناس وذوَّقهم المرّ. ومع كل هذا، وقبله ووسطه ووراءه، جماعة تأبى الخضوع وترفض الانصياع، تواصل الرفض وتمضي في الطريق، لا بل تطلق برنامجا ضخما تقول إنها تحيي به ذكرى تأسيسها الأربعين، ممتد في الزمن متنوع في النشاط. فكان الاعتقال، لعلّ هذا الكيان الشخصي/المعنوي يرعوي ويرتدع. ولا ضير، نصنعُ التهمة لاحقا ونُصيغها على أعيننا في أقبية التحقيق وأدواته!

تلكم كانت هي التهمة الحقيقية التي لا غبار عليها ولا ترقى إليها أدنى درجات الشك، أما “الخيانة الزوجية” التي تحوّرت بقدرة قادر (على شاكلة كورنا!) إلى “الاتجار بالبشر”، ثم ارتدّت أطرافها إلى “التحرش الجنسي”، ففرقعات في الهواء وبالونات منفوخة تستوجبها شكليات “دولة الحق والقانون” و”كليشيهاتها”.

الآن، وقد بانت الطبخة المحروقة، من المهم النظر إلى نصف الكأس المملوء، ففي ملف الدكتور محمد باعسو ما فيه من عطايا مستبطنة:

– أسرة باعسو نفسُها، الزوجة الوفية والأبناء الناضجون والعائلة الكبيرة، أبانوا جميعا أن الأساس متين، والبناء مكين؛ ثقة في خلق الزوج، ويقين في براءة الأب والأخ، كيف لا وهو المربي والحاضن وغارس القيم والأخلاق؟ تماسك يُضرب به المثل، تجاوز الموقف المبدئي من الملف والواقعة إلى النضال الميداني الذي لا يلين ولا يستكين.

– جيران احتضنوا وتضامنوا وآزروا، تألموا فاحتجوا وأنكروا فاستنكروا، حتّى بات الحي الذي يقطن فيه باعسو مركز حركية لا تهدأ. وهو لعمري مشهد بقدر ما يحيل إلى أصالة قيمة الجيرة والجوار والجيران في الثقافة الشعبية المغربية رغم كل التجريف الجاري ضدّها، بقدر ما يدلّ على أن الدكتور محمد أعراب كان فاعلا حيّا في حيّه ومحيطه، حتى خبره الناس وعرفوا معدنه الرفيع.    

– مكناس مدينة الأصالة والعتاقة والتاريخ، حيث التآلف انتصارا للمظلوم ودفاعا عن حرمته وحريته، وهو ما كانَ من قِبل فاعلين حقوقيين ومدنيين وسياسيين من أبناء المدينة الشرفاء، حين انسلكوا طوعيا في مسار نضالي تضامني، لتصبح مكناس وضواحيها على موعد مع حركية احتجاجية قوية وفاعلة، امتدت على مدار الأشهر السبعة كاملة، نوّعت في مناطقها وأحيائها وأشكالها، وجمعت فضيلتي المطالبة بإطلاق سراح باعسو ومعه كافة معتقلي الرأي، والتنديد باستشراء الغلاء الفاحش وضرب القدرة الشرائية لعموم المواطنين.

– جماعة العدل والإحسان المستهدف الأساس من الملف، إذ تكتّلت مؤسساتها ونسّقت فعلها ودبّرت الملف بما يقتضي من بذل وتضحية؛ يقظة عالية لمؤسساتها في مكناس التي نزل بها الابتلاء عبّرت عنها مثلا عشرات الاحتجاجات بالليل والنهار، وأداء حقوقي وقانوني عالي الكفاءة قدّمه جسمها في المحاماة كشف العيوب الشكلية والأعطاب الجوهرية التي طالت الملف، وتغطية إعلامية بارزة تميزت بالكثافة التي يستوجبها التبليغ وبالنوعية التي أبانت في عرض طبيعة الملف وحقيقته السياسية.

– نسيج وطني من الفاعلين الحقوقيين والمدنيين، حتى بات أعضاؤه رمزا للنضال الوطني والتضحيات العظيمة، يواصلون الصمود والاستماتة رغم حجم الحرب التي تُشَنّ على كل واحد منهم في شرفه وعمله ورزقه وعائلته، وهو النسيج الذي كان في الموعد مجددا مع ملف باعسو، كما كان في الموعد سابقا مع ملفات شباب الريف وبوعشرين والريسوني ومنجب والراضي وزيان… أوضحوا بلغة الحقوق وفعل الميدان طبيعة الملف، ووضعوه في سياقه السياسي الوطني الذي يجري فيه التضييق التام على كل صاحب رأي مستقل ومعارض.

وسط كل هذا، والمشهد يرخي أستاره على الملمح الأخير، سطعت مقولة من وسط ردهات المحكمة، ومن صاحب الملف نفسه، نطقها لحظة صدق وهو يترقّب حكم المحكمة، وقالها وهو يخاطب بكل مسؤولية وثبات القضاء والنيابة العامة والأطراف المتدخّلة المراقبة من بعيد: إنا باقون على العهد.

نعم، والسجن يترصّد والسجّان يتوعّد، إنا باقون على العهد.

“إنا باقون على العهد” هذه، لها حكاية ورواية.. فهي مقطع من أنشودة تناغي الروح والوجدان وتعكس القناعة والمبدأ، تغنّى بها، وما يزال، أبناء الحركة الإسلامية سنينا طويلة، رددوها في أهازيجهم وأشعارهم، وزينوا بها مجالسهم ولقاءاتهم، وعبروا بها عن رسوخهم وثباتهم، متوقعين -في وسط ليل بهيم من الظلم والاستبداد- أن يتعرّضوا في سيرهم للمدلهمات والحوالك، ومؤكدين أنهم باقون على العهد، عهد التربية والجهاد والإخلاص للواحد الديّان، دعوةً إليه سبحانه ودفاعا عن المستضعفين في الأرض.

تلكم هي العبارة، والمعاني، التي كرّرها الدكتور محمد أعراب باعسو حين ختم كلمته النهائية أمام هيئة الحكم، قبل أن تخلو إلى نفسها، لعلّها تستمع لصوت العدالة ونداء القانون، لكنّها أبت إلّا أن تخرج علينا، ولعلّها مرغمة، بحكم الإدانة البديل (سنة حبسا وغرامة)، ما دامت التهمة المغلّظة (الاتجار بالبشر)، ومعها الحكم القاسي، قد سقطا أمام افتحاص الوقائع الملفقة، ومادام “صانع الملف” قد أخفق من الاستمرار في تهريب التهمة إلى حين استصدار الحكم الموعود.

“إنا باقون على العهد” التي قالها باعسو بحاله ومقاله، هي نفسها قلناها هنا في هذا الركن مباشرة عند الاعتقال وتلفيق التهمة، وهي نفسها ننهي بها كلامنا:

أما جماعة العدل والإحسان، ومِن ورائها أبناؤها وبناتها وقياداتها وعلى رأسهم الدكتور المعتقل محمد باعسو، فتعلم جيدا ضريبة الكلمة الحرّة، والاختيار المستقل، والمعارضة الجادة، والدعوة الصادقة. وقد استعدت لذلك منذ أن أسّس إمامها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله منهاجها هذا، ووطّنت نفسها على الصّعاب والابتلاءات، ويمّمت وِجهتها صوب الحق، واختطّت لنفسها طريق الصدق، إسماعا للفطرة ودفاعا عن المستضعفين، لا تخشى في الله كيد كائد، ولا تتهيّب مكر ماكر. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.