لا شك أن الإنسانية تعيش مخاضا عسيرا بسبب الوباء الذي حل بها، وشغل العالم من شرقه إلى غربه، وصار اسمه يتردد على كل الألسنة، وكل يدلي بدلوه كان متخصصا أو غير متخصص، في البحث وتقديم الأسباب والمسببات وطرق الوقاية وربما وصفات للعلاج.
نعم لقد طغى الإنسان وتجبر وظن نفسه أنه خرق الأرض وبلغ الجبال طولا، ولم يعتقد يوما أن ما صنعت يداه لأوهن من بيت العنكبوت، وقد حق فينا قول الله تعالى إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز. وابتلاء كهذا لا بد له من وقفة متأنية مع الذات، لابد من مواجهة النفس بالسؤال الصريح عن همّ المصير الأخروي، عن الغفلة، وكذلك عن حجم الثقة بالله والرضا بقضائه وقدره، والصبر والجلد وقت الأزمات والابتلاءات.
وفي هذا الصدد، أستحضر قول الله سبحانه وتعالى: فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون، هي آخر آية من سورة الروم التي أكد الله سبحانه وتعالى في مفتتحها أن الغلبة والنصر ليسا مجرد أخذ بالأسباب وتوخي الحيطة والحذر فقط، وإنما هما كذلك إيمان بقضاء الله وقدره، وتسليم العبد زمام أموره لخالقه، ومقابلة ما قدره الله بالرضا والتسليم، هما إيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، ووعي بأن كل شيء يجري في الكون بتقديره وتدبيره ومقتضى حكمته مصداقا لقوله تعالى لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.
وفي هذا الظرف العصيب، أود أن أستدعي واحدة من أقوى المشاهد التي تحمل دلالة تاريخية واجتماعية وسياسية بحضور قوي للمرأة المسلمة، ومشاركتها الوقائع العظمى وقد أصبحت لها مكانة لا يفضل بها أحد عنها إلا بما يحسن.
إنها بيعة النساء، الميثاق العظيم مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، حيث تعاهدت فيها على شروط حددها الله سبحانه وتعالى في سورة الممتحنة، بيعة رفعت المرأة إلى درجة من المسؤولية والقيمة حتى أصبحت ركنا أساسيا في البناء.
استحضرت هذا الحدث القوي لما له من راهنية ونحن نعيش هذا الوضع الحرج، فهي ذكرى توقظ القلب إلى معاني الإيمان، تحرك الساكن فينا والخامل من حولنا، ليتحرر من كل عبودية لغير الله تعالى، كما أود أن أذكر بشرطين اثنين في الميثاق مع رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام، حفظ الدين وحفظ النفس.
حفظ الدين: هو أصل المقاصد، فإذا ذهب الدين ذهبت المقاييس الصحيحة والموازين العادلة بحيث يتبع الناس أهواءهم، واتباع الهوى مفسدة، يقول الله تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.
لأن أهواء الناس تختلف، ومصالحهم تتعارض فلا بد من دين يضبطها وينظم الحياة ويخلق التوازن فيها، فهو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند إلى حق.
حفظ النفس: وصيانتها من كل مكروه والحفاظ عليها وعدم تعريضها للخطر هو مقصد من مقاصد الشريعة، ولنا في سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه المثل الأعلى حين منع الجيش من دخول الشام بسبب “طاعون عِمْواس”، وقال قولته الشهيرة “نفرّ من قدر الله إلى قدر الله”، وما وباء عصرنا بأقل خطورة منه.
وحفظ النفس يقتضي وضع الضمانات لحماية الإنسان، وبيان المصالح والمضار له في تحصيل مطالبه وعدم الاعتداء عليها بغير حق.
وحق الحياة حق خالص لله تعالى، بحيث حرم على الفرد أن يعرض نفسه للتهلكة، فحياة الإنسان ليست ملكا خاصا له وحده وإنما هي لخالقها، قال تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
ومع حفظ هذين المقصدين وغيرهما من كليات النسب والعقل والمال، لابد من موجهات أساسية تقتضيها المرحلة، أذكر بها نفسي قبل غيري:
1- الصبر وسعة الصدر: وهو وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية، الصبر في موقف الشدة والمعاناة، الصبر على التكذيب، الصبر على الأذى، على طباع الناس وتصرفاتهم من هنا وهناك، الصبر على النفس واستعجالها وقلقها وتطلعها ورغبتها في الفرج القريب، وما يتعلق به من رغائب وآمال؛ يقول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين.
2- اليقين في موعود الله تعالى: وهو خلق أنبياء الله تعالى وعباده الصالحين، رفع به درجاتهم وكفر عن سيئاتهم.
قد تبدو ملامح الإحباط والتشاؤم في وجوه الكثير من الناس تصل أحيانا إلى درجة اليأس والقنوط لما تعتريه من أزمات و ابتلاءات، وأبواب الأمل والفرج قد تبدو موصدة، فهذه المرحلة العصيبة تقتضي مزيدا من اليقين بالله، وجرعة زائدة من الثقة بحتمية تحقق ما وعد الله به عباده المؤمنين ولو بعد حين، ولعل في كتاب الله تعالى من الآيات التي تشير إلى ذلك الشيء الكثير.
ونستحضر في هذا المقام قصة سيدنا نوح عليه السلام الذي لم يكترث بسخرية قومه منه وهو يصنع السفينة بالرغم من بعد البحر عن تلك البقاع التي كان يعيش فيها قومه، ولم يعبأ بطول الوقت الذي تطلبه تنفيذ أمر الله، فيقينه بحتمية نصر الله تعالى له ولمن معه من المؤمنين كان دافعا له على التركيز على أمر الله سبحانه، وقد قال في محكم كتابه: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون.
واليقين يحتاج إلى تعلم، يحتاج إلى تهيئة القلب وتطهيره، فهو عطاء من الله تعالى ونور يقع في قلب العبد فتذهب حيرته وتزول مخاوفه، فقد تعلمه كبار الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحبتهم المباشرة له ونصرته والصبر في مواطن الجهاد معه، عن خالد بن معدان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلمه.
3- الاستبشار بالخير: قال عليه الصلاة والسلام “أبشروا وأملوا ما يسركم”، هو منهج نبوي كريم في التفاؤل بالخير، فالمتأمل لحياته عليه الصلاة والسلام ولسيرته وأقواله وأفعاله يلاحظ استبشاره وتبشيره بالخير، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن ويكره الطيرة”.
حتى في أصعب اللحظات والمواقف التي مرت عليه وعلى أصحابه، يعلمهم بأن مع العسر يسرا، ومع الشدة الفرج، إيمانا راسخا ويقينا صادقا بموعود الله تعالى وهو القائل: “ما ظنك باثنين الله ثالثهما”.
والكلمة الطيبة المبشرة والمشجعة، والوجه الباش، تقرب القلوب وتزرع المحبة وتمحو الغضب، قال تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، توتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتفكرون.
لكن ومع الأخذ بالأسباب التي تدفع الأذى وترفع البلاء، لا بد من توبة وإقلاع عن المعاصي، ودعاء، واستغفار، وعمل صالح، وقد قال عز وجل عن سيدنا يونس عليه السلام فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون.
فاللهم ربنا ارحم بلادا مسها الضر ولا تقوى على شيء إلا برحمتك، وارفع عنا بلاء طال بيوتك وعبادك عجز عنه أهل الأرض ولا يقوى عليه إلا رب السماء، اللهم إن هذا الوباء بأمرك نزل وبقدرتك يزول، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.