تدريسية مادة التربية الإسلامية بالمغرب وسؤال التربية على القيم

Cover Image for تدريسية مادة التربية الإسلامية بالمغرب وسؤال التربية على القيم
نشر بتاريخ

تـمهيد
تشهد مادة التربية الإسلامية في مختلف أسلاك التعليم وأقطابه اليوم تطورا مستمرا وإصلاحات ومراجعات لمناهجها وبرامجها [1]، لكونها مادة تمتلك من المؤهلات والمخرجات –  باعتبارها إحدى الوحدات الأساسية للمنهاج الدراسي – ما يجعل منها أساس بناء الإنسان والمواطن الصالح القادر على إشاعة قيم الخير في مجتمعه، وتطوير مهاراته الفكرية والعقلية وترسيخ قيم التعايش والمشترك الإنساني والمواطنة وقبول الآخر. فكان الانتقال من الطابع العام للمادة إلى الطابع التخصصي، وفي ظل هذه التعديلات الرسمية التي خضعت لها مادة التربية الإسلامية، والهجمات والضربات الممنهجة التي تتلقاها بين الفينة والأخرى، وخرجات هجينة من جهات أو أشخاص يحسبون أنفسهم تربويون، ويحسنون لهذه المادة المقدسة صنعا. إن أقل ما يمكن أن نصف به هذه  التعليقات والخطابات والتصريحات أنها فقدت صوابها ورشدها وبوصلتها، فظاهرها وباطنها كله عداء وحقد دفين قديم متجدد لهذه المادة الحاملة لقيم الرحمة والتسامح والحوار.. وفي بلد عريق دستوره ينص أن الدولة المغربية دولة مسلمة، ودينها الرسمي هو الإسلام، وطن له هوية وحضارة نفتخر بها بين الأمم، وأمام هذا الوضع المتسم بالتخبط والجنون، نحتاج إلى إعادة تجديد النظر والمقاربات حول سؤال الجدوى والمعنى، والجودة والارتقاء بتدريسية مادة التربية الإسلامية.

إن تدريسية مادة التربية الإسلامية رغم الإصلاحات والمراجعات التي يعرفها منهاجها وبرامجها، فهي ما تزال فعلا رهينة لجملة من الإشكالات والعوائق والصعوبات [2]، ولا يمكن أن ينكرها أو يتجاوزها عاقل تربوي، وأكاديمي راشد له غيرة وحب لهذا الوطن الحبيب، بعضها مرتبط بالتصورات والتمثلات البيداغوجية، وبعضها مرتبط بإشكالات النقل الديداكتيكي، والآخر بالسياسة التربوية العامة للمنظومة التربوية ككل، لذا وجب صياغة هندسة بيداغوجية وتخطيط ديداكتيكي محكم وفق رؤية استراتيجية واضحة المعالم من قبل مهندسي المنهاج والمدرسين، والفاعلين التربويين.. في إطار نسق تربوي متكامل تحكمه مخرجات العقد الديداكتيكي وأخلاقيات المهنة.

وفي هذا السياق تأتي هذه الأسطر لكي تزيل اللثام وبعض الغبار عن بعض العيون العمياء، وتسمع بعض الآذان الصماء، وتوقظ بعض القلوب الغلف التي طال عليها الأمد، فصارت لا ترى في هذه المادة الراقية منبع القيم الأخلاقية إلا مصدرا للشؤم والشحن والتلقين. وللإسهام في إثراء النقاش العلمي الجاد والهادئ حول هذا الموضوع الشائك القديم الجديد، والذي يكون دائما الغرض من إثارته هو النيل من مكانة هذه المادة صمام آمان هذه المنظومة التربوية، وحسبي أنها إشارات تفهم من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وتسهم بقدر الإمكان في إثراء النقاش الجاد والمسؤول، بعيدا كل البعد عن السفسطة والجدل العقيم، والكلام اللاغط الفارغ  الذي لا فائدة ترجى منه ولا معنى له ولا أثر.

تدريسية مادة التربية الإسلامية إشكالات منهجية وقضايا معرفية

إن المنظومة التربوية اليوم في أمس الحاجة إلى التجديد وتحقيق الجودة، تجديد يضخ دماء جديدة في شرايينها وبعث نفس جديد في قلب حياتها المدرسية، ومن ثم الرقي بالمناهج والبرامج، ويأتي الاهتمام بمنهاج مادة التربية الإسلامية في المقدمة، لكونها من أكبر المواد الحاملة للقيم والهادفة إلى بناء شخصية متعلمة متوازنة محافظة على هويتها، صالحة في نفسها ولوطنها، متطلعة إلى تحقيق عمران إنساني أخوي، والانخراط الفعلي في تنزيل المشروع المجتمعي، بل يمكن القول بأن  التجديد والتجويد صار ضرورة ملحة للخروج من جحر الاجترار والإنعتاق من قيود التقليد والجمود والغزو الفكري الذي أصبح يهدد الأمة في أمنها الروحي.

ويعد إصلاح منهاج مادة التربية الإسلامية ومراجعة برامجها [3]، منهجا ومضمونا، كما وكيفا، مطلبا تنادي به فئة كبيرة من الباحثين والفاعلين التربويين والمهتمين بقضايا التربية والقيم في المجتمع المغربي، وهذا يدل على حيوية المنظومة التربوية والتعليمية وحركيتها، وسعيها الدؤوب إلى الاستجابة للحاجيات الروحية والمجتمعية والمعيشية للمتعلمين، إلا أنه بالمقابل يلاحظ ما تعانيه المنظومة من اختلال وتدني خطير أقرته التقارير الدولية والوطنية، لذا نجد أنفسنا أثناء الحديث عن إصلاح مناهج التربية الإسلامية ومراجعة برامجها، ملزمين ومجبرين على استقراء الإصلاح الجديد للتعليم بالمغرب، واستنطاق فصوله ومرتكزاته وفق الرؤية الإستراتيجية للإصلاح [4] وما تلاها من نصوص تنظيمية ووثائق مرجعية، وضعتها الوزارة الوصية وكلفت بتدبير أولوياتها، ومن ثم صار ارتباط إصلاح مناهج التربية الإسلامية بالإصلاح الكلي للمنظومة كالرأس من الجسد، وبالتالي أصبح الفصل والتفرقة بينهما أثناء الحديث من الصعب بمكان.

وفي الأيام الأخيرة كثر الحديث والكلام اللاغط الذي لا معنى له ولا جدوى ترجى منه، وصار خطاب التبئيس والتبخيس والتنقيص والاصطياد في الماء العكر يسود بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي حول مادة التربية الإسلامية والجدوى من تدريسيتها، وهذا في اعتقادنا سلوك لن يجدي نفعا، وأسلوب قديم/جديد، لن نجني من ورائه سوى إثارة النعرات والفتنة بين أفراد المجتمع المغربي المعتز بهويته وقيمه وأصالته. وبدأنا نسمع حديثا هجينا حول سؤال المعنى من وراء تدريس مادة التربية الإسلامية بالمناهج الدراسية بالمغرب، وطامة الطوام وأم القبائح والكارثة لما يكون حكم قيمة، وليس رأيا نابعا عن علم واطلاع ومواكبة لمستجدات منهاج مادة التربية الإسلامية المغربي المتقدم بشهادات رسمية من قبل خبراء التربية داخل المغرب وخارجه [5]. بل الكارثة أن يكون من مصدر يفوح برائحة الحقد والجهل، ولربما الفهم الأعور والتصور غير المؤسس على رؤية فلسفية علمية لها أصولها البيداغوجية ومرتكزاتها الديداكتيكية، تصريحات ومقالات وبلاغات من هنا وهناك، اجتثت من فوق ومن تحت الأفهام السقيمة المريضة ما لها من قرار، إنها ليست قضية إصلاح، أو تصحيح أفهام، أو وضع تصور جديد له نظريات علمية مؤطرة، ليس هناك عاقل تربوي راشد يحب الخير لبلده ولأبنائه ينطق ويصرح بتصريحات لا تشم منها إلا رائحة التضليل وهدم وخلخلة وزعزعة قيم وثوابت الأمة، والتي دينها الرسمي هو الدين الإسلامي، إن مثل هذه الخرجات الإعلامية المقيتة أقل ما يقال عنها؛ أنها إعلان عن هدم ونسف ما تبقى من قيم أمة لها تاريخ عريق، وهوية أخلاقية راقية ضاربة في جذور التاريخ.

لا يمكن أن ننكر أن إصلاح مناهج وبرامج التربية الإسلامية ما يزال يعرف العديد من الإشكالات، نظرا للتباين الحاصل بين واقع النظام التربوي المغربي وواقع المادة الموضوعي، خاصة خلال اختيار المحتوى وتنظيمه، بالإضافة إلى إشكال تجديد البرامج والكتب المدرسية، حيث لا يعتمد على تقويم مدى تحقق الأهداف في مستوياتها من الخاص إلى العام، وتحديد العوائق لرفعها وتجاوزها، بل يتم تجديدها على أساس تقويم معرفي للمحتوى المعرفي (علميته)، وتقويم انطباعي لمدى ملاءمته للمستوى الإدراكي للمتعلم، ومدى تلبيته لحاجته (تقارير المجالس التعليمية، الاستمارات، التقويمات الانطباعية للفرق التربوية بالأكاديميات..)، بحيث لا توضع روائز وإستراتيجية للتتبع الميداني [6] بل ولا يستفسر حتى عن الرأي الانطباعي للمتعلم، لذا نجد أنفسنا أثناء الحديث عن إصلاح مناهج مادة التربية الإسلامية ومراجعتها، سواء على مستوى المضمون أو المنهاج أمام عقبات وأسئلة استفهامية مقلقة وإشكالات شائكة محيرة تحتاج إلى جواب واضح ومسؤول، يمكن تجميعها في التساؤلات التالية:

ما موقع هوية الأمة ضمن النسق الكلي لإصلاح مناهج التربية الإسلامية؟

هل لإصلاح مناهج التربية الإسلامية تطلع للإسهام في بلورة مشروع مجتمعي إصلاحي ينهض بأحوال منظومتنا التربوية ويزيل عنها غبار الارتجالية والاستعجالية…؟

ما هي طبيعة المقاربة التي تم بها إصلاح مناهج التربية الإسلامية؟

وما هو منظور منهاج التربية الإسلامية: ثوابته ومتغيراته؟

وما هي المستجدات التي عرفها هذا المنهاج: الأهداف والكفايات والإدماج وكيفيات الاشتغال بها؟

وكيف يشتغل المنهاج الجديد على مستوى التدريس والتقويم: الجانب التطبيقي للكفايات وللإدماج؟

وكيف بلورت الكتب المدرسية الجديدة مستجدات منهاج التربية الإسلامية منهجا ومضمونا؟

وما هي العقبات والإشكالات المطروحة على مستوى توظيف الكتاب المدرسي في علاقة متناغمة بين أقطاب المثلث البيداغوجي؟

وأخيرا ما هي اتجاهات التلاميذ نحو الكتب المدرسية؟

فأي إصلاح إذا نريد؟ وبأية وسائل؟ و بأي رؤية؟ وبأية مقصدية؟..

هذه الإشكالات المعقدة والتساؤلات المحيرة، ومثيلاتها، وتوضيح مدخلاتها ومخرجاتها، يحتاج منا إلى تنظير وتخطيط وبرمجة واجتهاد أوسع وأرحب، وإلى بحوث علمية جادة، ودراسات تربوية حقيقية، واضحة وشاملة وفاعلة، فما لا يدرك كله لا يترك جله.

تدريسية مادة التربية الإسلامية بالمغرب وسؤال التربية على القيم

تعتبر القيم مبادئ عامة وموجهات أساسية يقيس الفرد في ضوئها الأفكار والمبادئ والقواعد السائدة في المجتمع، فيقبل ما يتوافق وهذه الموجهات ويرفض ما يخالفها، وللقيم أهمية بالغة في وضع المناهج الدراسية في جميع مراحل التعليم، بهدف تحقيق التوازن الذي يستهدفه المجتمع في تكوين أفراده؛ وبذلك تعتبر التربية محضنا للقيم ومرتكزا أساسيا لإدماجها وتعزيزها وترسيخها فكرا وممارسة وفق التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فالتربية على القيم ضرورة تربوية وحضارية ملحة، وشرط لازم للمواطنة والتنمية.

فالقيم الأخلاقية إذن باعتبارها سلوكات ومواقف وممارسا ت فإنه ينبغي تنميتها في فضاءات المجتمع المدرسي، ليتسع مجالها إلى الفضاء المجتمعي العام. لهذا تلتقي النداءات التربوية في عدم إغفال المؤسسة التعليمية لممارسة دورها في ترسيخ القيم إلى جانب اهتمامها بالمعارف المدرسية المعتادة، من خلال وضعيات حقيقية أو مستمدة من واقع الحياة اليومية للمتعلم، وعلى نفس المنوال صار المنهاج الجديد للتربية الإسلامية، حيث ركز بشكل كبير على القيم. والناظر في هذا المنهاج يستشف أن القيمة المركزية لهذا المنهاج هي قيمة التوحيد، إلا أن هناك قيم مرتبطة بها ولصيقة بها تتمثل في قيمة الحرية وقيمة الاستقامة وقيمة المحبة وقيمة الإحسان [7].

  • ملامح المنهاج الجديد لمادة التربية الإسلامية

شهدت الساحة التربوية والسياسية المغربية نقاشا حادا بعد البيان الصادر عن الديوان الملكي عقب اجتماع المجلس الوزاري المنعقد بمدينة العيون فبراير الماضي، والذي تضمن دعوة الحكومة إلى “مراجعة مناهج وبرامج مقررات تدريس التربية الإسلامية” في مختلف مستويات التعليم، “في اتجاه إعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب السني المالكي الداعي إلى الوسطية والاعتدال، وإلى التسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية”، كما شدد عاهل البلاد على أن ترتكز هذه البرامج والمناهج التعليمية على القيم الأصيلة للشعب المغربي، وعلى عاداته وتقاليده العريقة القائمة على التشبث بمقومات الهوية الوطنية الموحدة والبنية بتعدد مكوناتها، وعلى التفاعل الإيجابي والانفتاح على مجتمع المعرفة وعلى مستجدات العصر. ومن أجل تحقيق هذا المقصد عملت وزارتا التربية الوطنية والتكوين المهني ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على ترجمة هذه التوجيهات الملكية، وذلك من خلال مشروع مراجعة الهندسة المنهاجية للتربية الإسلامية الخاصة بمؤسسات التربية والتكوين العمومية والخصوصية، بما تتضمنه من مكونات على مستوى الأهداف والتوجيهات والبرامج والمضامين التعليمية والتدابير التنظيمية والتربوية..

  • المنطلقات والاختيارات والتوجهات العامة لإصلاح منهاج التربية الإسلامية

إذا كان منهاج التربية الإسلامية، والذي توقف العمل به متم السنة الدراسية ( 2015 – 2016) تم بناؤه ومراجعته انطلاقا من المبادئ الأساسية والمرتكزات الثابتة والغايات الكبرى التي نص عليها الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والاختيارات والتوجهات العامة الواردة في الوثيقة الإطار للإصلاحات، فإن المنطلقات العامة للإصلاحات المعتمدة في بناء المنهاج الجديد تضيف إلى ذلك مقتضيات الرؤية الاستراتيجية، وكذا استراتيجية الوزارة في مراجعة المناهج والبرامج المتمثلة في التدابير ذات الأولوية. وعليه فإن الاختيارات والتوجهات العامة للإصلاحات لم تتغير، فتم بذلك الاحتفاظ بنفس الاختيارات والتوجهات المعتمدة في الإصلاحات التربوية في مجالات القيم والكفايات والمضامين.

 ففي مجال القيم: تم الإبقاء على القيم المستقاة من المرتكزات الثابتة المنصوص عليها في الميثاق الوطني للتربية والتكوين والمحددة في:

  • قيم العقيدة الإسلامية.
  • قيم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية.
  • قيم المواطنة.
  • قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية.

وفي مجال تنمية وتطوير الكفايات: استقر المنهاج الجديد على نفس الكفايات المسطرة في الكتاب الأبيض في جزئه  الأول المتعلق بالاختيارات والتوجهات التربوية العامة المعتمدة في مراجعة المناهج التربوية، ويتعلق الأمر بالكفايات الاستراتيجية، والتواصلية، والمنهجية، والثقافية، والتكنولوجية.

وفي مجال المضامين التي تخدم المواصفات المحددة للمتعلم في كل مرحلة دراسية، تم الاستقرار على نفس المضامين المسطرة بالكتاب الأبيض في جزئه الأول.

  • القيمة المركزية والقيم الناظمة للمنهاج  الجديد

لقد عرف منهاج مادة التربية الإسلامية تغييرا على مستوى الهندسة المنهاجية، حيث تم الانتقال من منهاج المكونات في التعليم الابتدائي والوحدات التربوية في الإعدادي والتأهيلي إلى منهاج المداخل؛ وهو منهاج تأسس على فلسفة جديدة، لكنه فتح نقاشا واسعا تناول طبيعة مفرداته، والمقاربات الديداكتيكية الملائمة لتنزيله.

وإذا كان المنهاج الجديد لمادة التربية الإسلامية قد جاء في سياق تطوير مناهج التعليم وبرامجه لتواكب التحديات الآنية، وتتجاوز الاختلالات المرصودة سابقا؛ هذا المنهاج الذي استحسنت عدة جوانب فيه، ومنها تحديد مفهوم مادة التربية الإسلامية، والقيم التي تبنيها عبر جميع الأسلاك والمستويات.. حيث أكد على أنها “مادة دراسية تروم تلبية حاجات المتعلم الدينية التي يطلبها منه الشارع، حسب سيروراته النمائية والمعرفية والوجدانية والأخلاقية وسياقه الاجتماعي والثقافي. ويدل هذا المفهوم على تنشئة الفرد وبناء شخصيته بأبعادها المختلفة الروحية والبدنية، وإعدادها إعدادا شاملا ومتكاملا، وذلك استنادا إلى الوجهات الآتية:

  • المبدأ: ضرورة الاستجابة للحاجات الدينية الحقيقية.
  • الغاية: اكتساب القيم الأساسية للدين المتمركزة حول قيمة “التوحيد”
  • المداخل: “التزكية” و”الاقتداء” و”الاستجابة” و”القسط”و”الحكمة ”[8].

إلا أن سرعة صدور هذا المنهاج وشموليته لمختلف المستويات والأسلاك، وتأخر صدور بعض وثائق المنهاج، أنتج نقاشا حول طبيعة مداخله ومفرداته، والمقاربات الديداكتيكية لتنزيله، ومدى الاستفادة مما راكمته المادة من وثائق ومقاربات.. إلا أن الملاحظ هو مركزية التربية على القيم من خلال المقاصد الكبرى التي صاغها المنهاج الجديد لمادة التربية الإسلامية والتي يمكن إجمالها في ما يلي: – المقصد الوجودي – المقصد الكوني – المقصد الحقوقي – المقصد الجودي. إن الناظر في هذا المنهاج يستشف أن القيمة المركزية لهذا المنهاج هي قيمة التوحيد، إلا أن هناك قيم ناظمة لها ولصيقة بها تتمثل في: الحرية – الاستقامة – المحبة – الإحسان.

وقد عمل هذا المنهاج على توظيف هذه القيم في الكتاب المدرسي بدءا من السنة الأولى ابتدائي إلى السنة الثانية باكالوريا، والتركيز عليها حتى يتسنى للمتعلم استيعابها وضبطها ضبطا صحيحا، وهذا يدل على حيوية المنهاج الذي يهدف إلى جعل المتعلم دائم الاتصال مع هذه القيم في جميع المستويات بالشكل الذي يتساوق مع قدراته الذهنية، ومن ثم صاغ المنهاج وفق خمسة مداخل رئيسة وهي كالآتي: مدخل التزكية، ومدخل الاقتداء، ومدخل الاستجابة، ومدخل القسط، ومدخل الحكمة.

”فالتزكية: يقصد بها تزكية النفس وتطهيرها بتوحيد الله تعالى وتعظيمه ومحبته، وذلك بدوام مناجاته من خلال تلاوة القرآن، والاتصال به وتعرف قدرة الله وعظمته قصد ترسيخ قيمة التواضع لدى المتعلم.

الاقتداء: يقصد به معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال وقائع السيرة وشمائله وصفاته الخلقية والخلقية باعتباره النموذج البشري الكامل قصد محبته واتباعه والتأسي به لنصرته وتعظيمه وتوقيره.

الاستجابة: ويقصد بها تطهير الجسم والقلب لتأهيل المؤمن لعبادة الله وشكره بالذكر والدعاء. بهدف تزكية الروح لتحقيق الفلاح في الدنيا والآخرة.

القسط: ويقصد به تعرف المتعلم مختلف الحقوق: حق الله في التعظيم والتنزيه، وحق النفس في التربية والتهذيب، وحق المخلوقات في الإصلاح والرعاية، وحق الخلق في الرحمة والنفع والنصح. وغاية هذه الحقوق والواجبات الوصول بالفرد إلى التعامل الإيجابي مع كل ما خلق الله من الكائنات، وذلك برعاية حقوقها والعناية بها قصد إصلاح أحوالها وفق منظور الرحمة والرعاية.

الحكمة: وتعني إصلاح النفس وتهذيبها والسمو بها وتطهيرها وفق توجيهات الشرع، بما يرفع الفرد إلى مستوى الإيجابية والمبادرة بالأعمال الصالحة للتقرب إلى ربه، ولتعميم النفع وتجويد الأعمال وفق قيم الرحمة والتضامن والمبادرة” [9].

على سبيل الختم

مما سبق ذكره بشكل مختصر، يتضح أن التربية على القيم من خلال المنهاج الجديد لمادة التربية الإسلامية حاضرة ومبثوثة في فلسفته الناظمة، فالقيم التي لفت النظر إليها في المنهاج الجديد لمادة التربية الإسلامية هي روح التربية ولبها وخلاصتها بل ومركزها، لأنها قيم مباشرة تتعامل مع ذات الإنسان، وهي يقينية ومحايدة بسبب أن مصدرها إلهي، وهي لذلك لا تنتصر لفصيل مجتمعي ضد آخر.

إن المنهاج الجديد أعطى أهمية كبيرة للتربية على القيم الإسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب السني المالكي الداعي إلى الوسطية والاعتدال، وترسيخ عقيدة التوحيد وقيم الدين الإسلامي عل أساس الإيمان النابع من التفكير والتدبر والإقناع، وتثبيتها في نفس المتعلم انطلاقا من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وجعله قادرا على فهم الدين في بعده الوسطي المعتدل إلى جانب التركيز عل قيم التسامح والحوار والنقد البناء والعيش المشترك والاحترام المتبادل، والتربية على الاختيار وتطوير الكفايات التربوية، وتمكينه من توظيف الوسائل التكنولوجية المعاصرة من أجل استدماج قيم العقيدة الإسلامية، واعتبار المدرسة مجالا حقيقيا لترسيخها.

إن التربية الإسلامية باعتبارها مادة لها أهمية قصوى تكمن في إكساب المتعلم مجموعة من القيم السامية النابعة من الشرع الحكيم، وتنسجم وتتكامل مع كل ما هو كوني وإنساني، وتهدف أيضا إلى إصلاح الاعوجاج الأخلاقي لدى المتعلم، حتى يتمكن المتعلم من نهج الطريق السليم الذي يوصله إلى بر الأمان، وربط علاقات قيمة أخلاقية إنسانية مع من يعرف ومع الغير، وليس كما يظن البعض ويتوهم أنها مادة تعتمد شحن المتعلمين، وتلقينهم معارف جافة لا أثر لها ولا معنى.


[1] بالرغم ما حققه للمنهاج الجديد لمادة التربية الإسلامية من ايجابيات  ومكتسبات، فإن صدوره إلى حدود كتابة هذه الأسطر لازالت تكتنفه العديد من النقائص و الهنات التي لا يسلم منها عمل بشري، وقد تمت تجميعها من قبل الفاعلين والمهتمين بتدريسية المادة، وفي مقدمتهم الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية، يمكن الرجوع إليها، ومن أمثلة ذلك تأخر صدور مذكرة التوجيهات التربوية…

[2] من أبرز الاشكلات والاختلالات البيداغوجية والديداكتيكية التي تشهدها وتعاني المادة منها منذ عقود، وأكثرت النداءات والبلاغات بمختلف الأشكال التواصلية التربوية المعروفة، ولكن لا حياة لمن تنادي؟  ونذكر من أهمها: إغلاق باب التبريز أمام أساتذة المادة، ضعف المعامل، خلل تقويم التعلمات، قلة عدد الساعات المدرسة.. وآخرها محاولة إجتثاتها وحذفها من الامتحانات الاشهادية في بعض الأسلاك التعليمية.

[3] تمت مراجعة منهاج مادة التربية الإسلامية، بعد توجيه خطاب ملكي، يومه 26 ربيع الثاني 1437 ه، الموافق 6 فبراير 2016 م، من مدينة العيون، لوزيري التربية الوطنية والأوقاف والشؤون الإسلامية، بضرورة مراجعة مناهج وبرامج مقررات تدريس “التربية الدينية”، سواء في المدرسة العمومية أو التعليم الخاص، أو في مؤسسات التعليم العتيق، في اتجاه إعطاء أهمية كبرى للتربية على القيم الإسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب السني المالكي الداعية إلى الوسطية والاعتدال، وإلى التسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية. كما تم التشديد على أن ترتكز هذه البرامج والمناهج التعليمية، على القيم الأصيلة للشعب المغربي، وعلى عاداته وتقاليده العريقة، القائمة على التشبث بمقومات الهوية الوطنية الموحدة، الغنية بتعدد مكوناتها، وعلى التفاعل الإيجابي والانفتاح على مجتمع المعرفة وعلى مستجدات العصر.

[4] للتوسع في الموضوع يراجع، شكري، مصطفى: 2016، “الإصلاح الجديد للتعليم بالمغرب أية رؤية وأية إستراتيجية؟ مطبعة دار القلم، للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الرباط.

[5] يعتبر المنهاج الدراسي لمادة التربية الإسلامية الجديد (2016)، أنموذجا بيداغوجيا متطورا متجددا من خلال اعتماده إطارا نظريا متقدما بخصوص الفلسفة التربوية القيمية، تخطيطا وتدريسا وتقويما، جامعا بين الخصوصية والكونية في انسجام تام تتصل فيه الأصالة والتجديد وتتكامل ولا تنفصل، و يمكن النسج على منواله أثناء مباشرة عملية تطوير ومراجعة وإصلاح المنهاج الدراسي بالتعليم الثانوي تأهيلي.

[6] عمور، عبد الحي. التعليم الأساسي، مطبعة النجاح الجديدة .ط2، 1993، ص: 76.

[7] منهاج التربية الإسلامية بين التجديد والمحافظة على القيم، مجلة المحجة، العدد  469.

[8] وزارة التربية الوطنية منهاج مادة التربية الإسلامية في منظومة التربية والتكوين: مقاربات ومداخل للتطوير، بتاريخ 22 رجب 1437/ 30 أبريل 2016، الرباط.

[9] منهاج التربية الإسلامية بين التجديد والمحافظة على القيم، مجلة المحجة، العدد 469.