تأمينات 3/3.. فصل من فصول: “لبنات في بناء الذات”

Cover Image for تأمينات 3/3.. 
فصل من فصول: “لبنات في بناء الذات”
نشر بتاريخ

القومة

القومة قيامُ من أقام الصلاة، وقام لله في تبتل ليله، ومن كان ذا قوامة مع أهله، وقوم سلوكه حتى استقام، وهل يقوم إلا عبد الله وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ واستفت الكتاب المبين عن صفات عباد الرحمن لتعلم أن القومة رحمة، لا نقمة على الأمة، وأنها قوة لا عنف، وشهادة بالقسط لا عسف، وبناء لا نسف. قومة شعبية لا حزبية، سلمية لا حربية، ربانية نبوية لا رهبانية ولا إرهابية غابوية. قومة وفي الكلمة ما يوحي بتأمينات عدة، تطمئن من معها أن لا مغامرة بارتجال واستعجال وابتذال، كما تطمئن من ضدها أن لا عدوان إلا على الظالمين، وأنها عملة ذات وجهين في سوق التمكين: أولا “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن”. ثانيا “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، عفو شامل لا هامل، يجُبُّ ما قبله، ولا يشهر سيف: من أين لك هذا) إلا أمام ظالم غاصب يدخر ما ليس له، ويعتبر مال الأمة ماله.

قومة إحسان تعفو عن من ظلم إذا رجع عن غيه وتاب، وتصل من قطع إذا ألهمه الله صواب إخوة يوسف الذين اعترفوا بعد إنكار، واهتدوا بعد ضلال، واستسلموا وسلموا القوس لباريها بلا تنطع أو مروق أو جدال، وإحسان من أعطى من حرمه، فلم يستأثر بالمناصب والمكاسب، وآثر بها غيره، لأن همه لم يكن حب الرئاسة وطلب المنابر والكراسي والمراتب والرواتب، بل كانت غايته الله، وكان دأبه أداء الواجب.

وضد القومة الثورة كما سبقت الإشارة، عنف مصدره الهوى، وغلبة لا تستند إلى تقوى، بل إلى الرهط والقُوى، وتصفية حسابات، وإعدام وشنق، وتهميش وإقصاء، وثأر للنفس وانتقام من الخصوم والأعداء.

الدعوة والدولة

والدعوة بعد التمكين، وامتلاك ناصية الدولة، والأخذ بزمامها تبقى دعوة، لا تنحرف عن جادة ما كانت عليه، ورشد ما آلت إليه. دورها أمس واليوم وغدا التربية ثم التربية ثم التربية، وهل كان مبتدأ دولة الإسلام المحمدية إلا بناء أشاد قباء، وإخاء ألف بين الأوس والخزرج، قبل أن يؤول إلى تحالف مع الأقرب فالأقرب، وتحصن من المنافق وهو العدو الألد، وإعداد القوة لمواجهة من يجاهر بالعداوة، ومن ليس من مواجهته بد.

دعوة تراقب الدولة برجال صلحاء من ذوي الأهلية الأكفاء. لا تترك لها الحبل على الغارب، ولا تطلق لها العنان السائم السائب، وفي المقابل لا تهيمن عليها بولاية فقيه، وبنحلة الغالب المستبد المنتقم المحتكر للمناصب، المدخر للمكاسب. دولة تؤمن بتعددية من داخل الوحدة لا بالحزب الواحد، حتى لا نسبدل المستبد بمستبد، وحتى يكون بعضنا لبعض عين رقابة، وعدسة نقد بناء، وتقويم وجيه. وتبقى الدولة مؤسسات، يحكمها دستور، وتضبطها قوانين، وتستند إلى توافق مرجعه الدين، ومعيار اختيار الرعاة والمسؤولين: القوي الأمين، الحفيظ العليم، النظيف النزيه، مع الكفاءة وحظ من التقوى لا ريب فيه، وهل يَصلح للإصلاح سفيه؟

دولة من هذا القبيل نموذج ناجح للاستيراد قبل التصدير، وقطر انبعاث يرغب الآخر في اقتناء سلعته، والترويج لصنعته، ليكون نموذجا متعديا لا لازما، وتكون العدوى خيرا وسلاما ينتقل من قطر إلى قطر، لا مرضا وسقاما، من أصابها أصابه، ناء بكلكل وباء بوزر.

وللمرأة في التأمينات خصوصيات

وعاشر هذه التأمينات أن للمرأة خصوصيات أفصح عنها المنهاج النبوي في كتاب عنوانه تنوير المؤمنات). خصوصيتها كأنثى وليس الذكر كالأنثى، جسدا وعقلا وقلبا، وملكات وقدرات وطاقات، وليس الذكر كالأنثى في أحكام الشريعة، وفي نظر الناس، خاصة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، على تفاوت في فقه الدين، وفقه الواقع، وفي حكمة التأويل والتنزيل والتفعيل. وخصوصيتها كأم تحت قدمها الجنة، حاملة رحيمة هي أول من يُصحب، وأولى من يُصحب، وخير من يحافظ على فطرة المولود. وخصوصية كونها خير متاع الدنيا، وأفضل معين على نشدان سعة الدنيا والآخرة. وخصوصية كونها ثالث ثلاثة حببها الله إلى حبيبه ومصطفاه عليه الصلاة والسلام، وهل يحبب الله لحبيبه إلا محابه ومن يحب؟ وأنها وصية خير الأنام قبل الوداع، أوصى بها مع الصلاة لأن عماد الدين الصلاة، والصلة بالمرأة أم الصِّلات. وخير الرجال من كان خيرا لأهله، ومن أحسن تربية البنات وتعليمهن أدخلنه الجنات، وبالضمن فالمرأة وراء كل عظيم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فوجب أن نعدها للخير لا للشر.

الأم مدرسة إن أعددتها

أعددت شعبا طيب الأعراق

رحم الله شوقي.

خصوصية المرأة إن دلت على ميزة وزيال، فإنها لا تدل على أفضلية بحال من الأحوال، إذ الميزة لا تعني الأفضلية كما يقال، ودرجة الرجل على المرأة درجة رعاية ومسؤولية، لا درجة تفوق وأفضلية، كما يفهم بعض الذكور لا الرجال، لكن هذا الاختلاف التكاملي إنما جعله الله ليكون بعضنا لبعض سخريا، لا ليتخذ بعضنا بعضا سخرية. لهذا ميز المنهاج النبوي في تنوير المؤمنات)، وغيرها من كتب المرشد الوالد المعلم الحبيب الطبيب بين الفقه التجديدي الجامع الذي يحفز المرأة إلى أن تستقل بإرادتها، وإدارة شأنها الخاص بما يسد خصاصها، ويراعي خصوصياتها، ويؤهلها لتكون راعية لتخصصاتها، وهل يملك يفهم المرأة إلا المرأة؟ وهل يملك ينظر لها إلا أخواتها من جنسها؟ وهل يملك يؤطرها إلا قادة من لحمها ودمها وطينتها وبيئتها؟ وإلا زاغ قطارنا عن سكة الشرع الضابط للسلوك، والموجه للحركة، والمانع من وقوع الكوارث، والعاصم من الشبه بله الحرام. هذا الفقه التجديدي الجامع الرفيق بالقوارير، الذي يدعو إلى أن لا يفرك المؤمن المؤمنة إن كره منها خلقا رضي آخر، ولا يكسرها إن رأى فيها اعوجاجا ليست مسؤولة عنه، وأن لا يدعي لنفسه الكمال وينسبها إلى نقص جعله الله لها تيسيرا وتخفيفا من التكاليف، وتقوية لجوانب أخرى تؤهلها لأن تكون الحاملة المرضعة الحاضنة الرحيمة، المتبعلة التي تسر زوجها إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، وتحفظه في نفسها وماله إذا غاب عنها، وتكون له سكنا مُثبتا ومطمئنا، ولباسا ساترا واقيا ومزينا، وحرثا طيبا مباركا فيه، يؤتي أفضل الأكل والجنى. إن زاغ هذا القطار عن سكة الحق والصواب، ضاع في سبل ملتوية دليلها الفقه المنحبس المختل الذي يُشهر سيف الطوارئ، وسد الذرائع، ليجعل المرأة مقهورة مقصورة محصورة نسيا منسيا في دار هي فيها خادمة للرجل، ضحية أنانيته، أو جارية نزواته، أو منبت أبنائه وبناته. أو سبيلها نحلة الغالب المحتل الذي أراد أن يكون نساؤنا كنسائه: كاسيات عاريات مائلات مميلات مشيآت، عارضات أزياء وأجساد، متحللات زاعمات أنهن المتحررات يطلبن المساواة، ويزاحمن الرجال في كل المجالات، بلا استثناء يراعي الخصوصيات، وكم لنحلة الغالب المحتل من ناعق معتل، ومن نعامات ودوابيات كالأنعام بل هم أضل، دون أن نغفل الفقه الذكوري الذي ينظر إلى المرأة بمنظاره، ويزنها بمعياره، ويضعها صورة في إطاره، ويجعلها حرة في زنزانة حصاره. ذاك الذي أتى من المريخ والمرأة من عطارد، فهو عن حقها شارد ويعاملها معاملة الجبار المارد.

وجميل أن أذكر اكتشافا طريفا، بل حصيفا أعلنت عنه محاضِرة إسبانية مشهورة في إحدى محاضراتها، وقد قدمت لهذا الاكتشاف بمقدمات تشد الأسماع، لما سيقال من مبهر عجيب، لم يرد على الألسنة من قبل، ولم يجر على الأقلام فيما مضى من الأيام والأعوام. لب هذا الاكتشاف -الذي لا زالت تمني نفسها بيوم تصدر فيه كتابا يصبح ملكا للجميع أن يقرؤوه ويستفيدوا منه، ليحدث ثورة عالمية في مجال التنظير لعلاقة الرجل بالمرأة، ولعلاقة المرأة بما حولها، وبمن حولها- أن المرأة ينبغي أن تبقى امرأة، وأن الرجل ينبغي أن يبقى رجلا، وأن أي تنازع أو خلط في فهم هذا الاختلاف، وفي إساءة توظيفه، نتيجته سوء فهم يؤدي إلى ما يناقض الفطرة الإنسانية، والطبيعة البشرية، ليفقد كل طرف عناصر قوته، ويوضع في غير سربه، وينازع الأمر أهله، مما ينتج عنه خلل في الأصل لا يمكن أن يتفرع عنه إلا الأخطاء والأدواء والأرزاء.

وفات هذه السيدة أن هذا الذي وصلت إليه هو ما نبدأ نحن منه، وأن البناء الآخر الذي تأسس على سوء الفهم الذي أشارت إليه، تنامى وتقوى بشكل إسمنتي يبدو راقيا في مظهره، مغريا في صوره، شامخا في طوله، ضخما في عرضه، مثيلا لناطحات السحاب من بناياته، لكنه بني أساسا فوق المستنقعات، وهل تبنى ناطحات السحاب فوق المستنقعات؟ كما يقول الفرنسيون، لهذا عنَّ لها اكتشافها عظيما مُبهرا بحجم عظمة الخراب الذي أصاب الفطرة، والتصدع الذي شاب البناء الإسمنتي المتحجر الذي زحف على المساحات الخضراء، مساحة المودة والرحمة. مساحة الميثاق الغليظ، والسكن، واللباس، والحرث. مساحة الإحسان. مساحة حسن التبعل. مساحة القوامة والحافظية. مساحة درجة المسؤولية والرعاية. مساحة الرفق بالقوارير. مساحة الكلمة الطيبة صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، وحتى اللقمة يضعها الرجل في في زوجته صدقة. مساحة “مِن يمن المرأة تبكيرها بالأنثى”. مساحة أن المرأة شقيقة الرجل في الثواب، وخفف عنها في أحمال الأعمال، لتحظى من الترخيص، والتسهيل والتيسير ما يجعلها تُقبل على الصلاة والصيام، والإمساك بالمصحف لقراءة القرآن بشوق بعد أن زال عنها المانع الشرعي، وقد يكون في عدم انقطاع الرجل ما يبعث على العادة التي تخصم من روحانية العبادة.

وللمرأة في غد التمكين من وازع السلطان مزيد عناية ورعاية، تجعلها المكرمة المعلمة المقدمة المستخدمة فيما خلقت لأجله، وما يتناسب ومؤهلاتها، ويتوافق وطبيعتها، ويفجر طاقاتها الكامنة، ويوظف ما أغدق الله عليها به من نعم ظاهرة وباطنة، في حلال طلق، وفي غير حرام أو شبهة أو فجور أو فسق. ويومها لن تخجل المرأة إذ تعرف بنفسها أنها ربة بيت، بل يكون هذا منها تعريف تشريف مع عظم التكليف، الذي يجعلها راعية ومسؤولة لأعظم مهمة على الإطلاق: مهمة صناعة البشر، والحفاظ على الفطر، وبناء الاستقرار الأسري على قواعد سليمة، ما دامت المرأة الصالحة هي حجر الزاوية في بناء الأسرة، نواة المجتمع، ومضغة جسده، التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإلا أصابه الفساد والكساد، ربة بيت تؤجر على هذه المهمة التي هي برجها الاستراتيجي، مع ما يتاح لها من وظائف لا حصر لها، إلا ما أعفاها الشرع منه لحكم ظاهرة خبرها البشر، وحكم باطنة لا يعلمها إلا رب البشر أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.