في سعي المؤسسات وسير الأفراد محطاتُ تجديد ولحظات تطوير، قد تمسّ جوانب شكلية وقد تشمل أخرى جوهرية. من سمات تلك اللحظات، وتمام نضجها أيضا، أن يمتزج فيها شيء من التقييم والتقويم والرصد والاستشراف والنقد الذاتي والتطلع إلى الأمام.
في مسيرتنا الإعلامية التي انطلقت مع انطلاق مشروع الإمام المؤسس وإخوانه، والتي انعطفت -حين ضاق بها مشهد الإعلام الورقي- صوب المنصات الرقمية منذ ما يفوق العشرين سنة، بعض من تلكم اللحظات والسمات الشاهدة على تطوّر المنصات نوعا وشكلا وعددا وتجارب.
غير خاف أن التنظيم الذي نعبر عنه (جماعة العدل والإحسان) كان من التنظيمات السبّاقة إلى إنشاء “وجود إلكتروني” في فضاء الإنترنيت؛ فكان أول موقع أسسه Aljamaareview.com سنة 1995، وبعدها بقرابة الخمس سنوات أطلق موقع Yassine.net سنة 2000، الذي تم الإعلان عنه يوم 20 ماي في الندوة الصحفية التي نظها الإمام ياسين يوم رُفع الحصار. ثم دشنت الجماعة تجربة جديدة سنة 2001 حملت عنوان Aljamaa.net. وما لبثت التجربة أن تطورت شكلا ومضمونا، خاصة مع ما أتاحه الانفجار التقني الهائل من وسائل وإمكانات.
وإدراكا منها لأهمية هذا المسار، أطلقت الجماعة ومؤسساتها تجارب أخرى، أبرزها موقع Mouminat.net الذي حمل قضية المرأة وهموم الأسرة عبر المقالة والحوار والخبر، وقناة Chahed.tv التي تخصّصت في الإعلام السمعي البصري وعرضت برامج من كل لون. ناهيك عن مواقع وتطبيقات Yassine.net التي عرضت وتعرض مشروع وفكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، وهي تجربة أخرى خلاقة تستحق أن تُروى حكايتها الخاصة. هذا دون الحديث عن مبادرات علمية ودعوية وشبابية هنا وهناك، وأخرى محلية في هذه المدينة أو تلك، قبل أن تصادر السلطة عددا منها بفعل مدوّنة مُصاغة على أعين التحكم.
اللافت أن هذه الحركية الإعلامية ليست وليدة مرحلتها، وإن اتخذت طابعها المعاصر “الإعلام الإلكتروني” بمختلف تجلياته، بل هي امتداد أصيل لعقلية ومبادرة الرجال المؤسسين؛ فالإمام عبد السلام ياسين رحمه الله بادر هو وثلة من أصحابه إلى تأسيس “مجلة الجماعة” في مارس 1979، حتى قبل أن يؤسس الجماعة، ثم أطلق جريدة “الصبح” في نونبر 1983، فـ”الخطاب” في نفس العام.
بعد ذلك، وفي نهاية التسعينيات من القرن الماضي، دشنت الجماعة، عبر مجموعة من الفتيان، تجربة جديدة هي “رسالة الفتوة”، خرج عددها الأول يوم فاتح غشت 1999. أعقبته بإصدار جريدة جديدة في العام الموالي (2000) هي “جريدة العدل والإحسان”، التي صدر منها عدد وحيد رافقه قرار سلطوي بالمنع من الطبع والنشر.
هي خطوات متواترة إذا، تقف خلفها عقلية مُبادرة إلى التواصل والبلاغ، حريصة على عرض قناعاتها وآرائها في واضحة النهار.
وإذا كانت هذه التجارب الإعلامية، الورقية في ذاك الزمن المبكّر والرقمية في وقتنا المعاصر، قد واجهها النظام المغربي بالمنع والمصادرة حينا والحجب والتضييق حينا، حتى لا تصل كلمة العدل والإحسان خالية من تحريف الوسائط إلى عموم الناس، فإن الإصرار على خوض التجربة بعد التجربة وفتح جبهة إعلامية جديدة بعد كل مصادرة، ينم عن وعي مبكّر بأهمية الإعلام، ودوره المحوري في الدعوة والتواصل والصدع بكلمة الحق.
في هذا السياق، ولعله من ألطف وأعمق القصص التي وقفنا عندها نحن أبناء التجربة الإعلامية القائمة، أنه، وبإيعاز من الإمام، تمّ أخذ تراخيص أربع مجلات وجرائد قبيل إطلاق جريدة “الصبح”، حتى إذا ما صودرت مجلة أطلقت جريدة. وهي حكاية بقدر ما تخبرنا أن الأصل في تعامل السلطة معنا، ومع غيرنا من الأحرار، هو المنع والحصار والمصادرة.. بقدر ما ترسخ في الوعي والسلوك منهج “سوف نبقى هنا”، نحاول ونحاول ونحاول، وفق ما تتيحه الوسائل المشروعة وإمكانات المرحلة. لن نلين أو نستسلم.
ونحن نستحضر هذه التجارب الغنية التي تلائم بين المبادرة والاقتحام ومصانعة الواقع والإبداع، والتي تمدّنا بعمق تاريخي مُلهم وغِنًى إعلامي رسّخه عمل قائم، نطلق، متوكلين على الملك الوهاب سبحانه، تجربة جديدة هي “بوابة العدل والإحسان”، وهي وليدة تأليف ثلاثة منابر (aljamaa.net – mouminate.net – chahed.tv) في منصة واحدة. نُجمّع فيها الجهود، وننوّع فيها الأشكال، ونرشّد فيها الأهداف.. خدمة لرسالة الفطرة التي نحملها للإنسان.
في “بوابة العدل والإحسان” نقدم لكم جماعة العدل والإحسان كما هي؛ تصورها ومشروعها وموقفها ونشاطها.. نعرّفكم برجالها وقيادتها ومؤسسها، ونعرض أمامكم جانبا من حركتها الداخلية وفعلها في الميدان.
في “بوابة العدل والإحسان” نسهم، إلى جنب غيرنا، في تعريف الناس بسموّ دينهم ورقيّ تعاليمه وقيمه، ندعوهم إلى الاعتزاز بالانتماء إلى الرسول الخاتم والأمة المرحومة، ونحثهم على التفيؤ بظلال القرآن والسنة وأنواع العبادات ومكارم الأخلاق.
في “بوابة العدل والإحسان” نطرق قضايا المرأة وتحديات الأسرة ومشكلات الطفولة، نبحث عن أفضل الصيغ لعلاقات اجتماعية وإنسانية راقية رُقيّ الإحسان الذي نتطلع إليه.
في “بوابة العدل والإحسان” نواصل الانحياز للمواطن، ونصطف مع الشعب، ونحمل قضاياه الحارقة، وندافع عن قيم السيادة والحرية والكرامة والعدالة، وكل ما يفتل في كرامة الأمة ووحدة نسيجها الاجتماعي.
في “بوابة العدل والإحسان” عين على فلسطين والأقصى والقدس وغزة العزة، ونظر في واقع الأمة وحركيتها وتطلعاتها نحو الانعتاق من ربقة الاستبداد والتبعية.
تلك إن شئتم معالم كبرى لهويتنا الإعلامية وفلسفتنا الصحفية، التي تنتظم مختلف صنوف وقوالب الإعلام التي سنعرضها بين أيديكم؛ من خبر وتقرير ورأي، وكلمة وصورة وصوت، وقصّة وفيلم وثائقي وبودكاست…
ندرك تماما أننا نخوض تجربة جديدة في سياق إعلامي غير مشجع ولا مساعد، سياق إعلامي يتسم بثلاثية التجريف والضبط والتضييق؛ تجريف للمشهد باتت معه الكلمة للتفاهة وإعلام السلطة، وضبط للحقل بالقانون الموجَّه والدعم المتحكم فيه أفضى إلى تجميد جسم الإعلام، وتضييق طال كل صوت معارض بلغ حد التغييب وراء قضبان السجون.
نعلم ذلك تماما، وهو كما قلنا سياق غير مشجع ولا مساعد، لكننا ندرك أن في المشهد صحفيين أحرارا، ونشطاء وحقوقيين، مخلصين لمهنتهم وللحقيقة ولقضايا وطنهم. وندرك أيضا، وهو الأهم، من نحن ومن نكون، وما طبيعة موقفنا وما مقتضياته، وما رسالتنا وكيف نقوم بها. ولذلك نخوض تجربتنا الجديدة بأمل كبير وتطلع مستبشر نحو الأفق الذي نرنو إليه.
نطلق “بوابة العدل والإحسان” في الذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان، وانطلاق مسيرتها ومشروعها لتغيير الإنسان والأمة، مستحضرين المنعطفات التي عاشتها حركتنا وتجربتنا، وتحولات السياق الذي اشتغلنا ونشتغل في ضوئه، مدركين حجم التحديات الكبيرة والإكراهات الهائلة.
ولأننا أبناء هذا الوطن، ومن تربته الأصيلة نبتنا وترعرعنا، سوف نبقى هنا، نحاول ونقاوم، نبدع ونصانع، نصمد ونتقدم، نجدد ونجود، من أجل الإنسان وفطرته السوية ومن أجل الأمة وقضاياها العادلة.