ولنا كلمة: اِعْتقل ثمّ اصْنَع التُّهمة.. حين يحكم الغباء

Cover Image for ولنا كلمة: اِعْتقل ثمّ اصْنَع التُّهمة.. حين يحكم الغباء
نشر بتاريخ

مع الأسف، يتأكد المرّة تلو الأخرى، والحدث بعد الآخر، أننا بإزاء واحد من أكثر أنظمة التخلّف سذاجة، نظام يُصرّ على وَسْم “شخصه” بالكثير من “صفات الغباء”، متوهّما أنه يصدّر إلى معارضيه “رهبة الشراسة”.

نعم، تتأسس الأنظمة المستبدة والسلطوية على نهج العصا والطغيان، المتلبّس بمسوح الديمقراطية وشكلياتها، لكن هذه الأنظمة، ولمكر رؤوسها ودهائهم، تَحْبِك نهجها ذاك، وتُحكم ضبط السُّبل ووضع السيناريو وإغلاق المنافذ مخافة الانفضاح، بل ويتخذ بعضها لنفسه خطوطا حمرا لا يتجاوزها. أما عندنا، ويا للحسرة، حتى ممارسة التسلط -الذي تحتكر الدوائر المخزنية كل أدوات صناعته- يجري تحت رعاية السذاجة المخلوطة بالارتباك الكاشف.

مناسبة هذا الكلام، إقدام السلطات المغربية، في واحدة من فبركاتها الفاشلة، على اعتقال ومتابعة الدكتور محمد باعسو بتهمة ظلت معلقة طيلة أزيد من ثلاثة أيام، تذهب يمينا تارة وترجع شمالا تارة، قبل أن تستقر على كبيرةِ التهمة العجيبة “الاتجار بالبشر”!

تقلبّت التهمة المعلّقة وتلوّنت وتغيرت، ليس بسبب تحقيق نزيه لأجهزة مستقلة، بل بفعل تعليمات أصدرها أصحاب الغرف المظلمة، لتتخيّر لها الأجهزة المعلومة المقاس والفصل والمحضر وباقي أدوات التنفيذ التي لا تمت إلى مفهوم “العدالة” بأي صلة.

لنَسْتعد شريط الأحداث، ولنُخضع سلوك السلطة إلى ميزان العقل والقانون:

–   اعتقال داعية دكتور ينتمي إلى أكبر تنظيم سياسي معارض في المغرب.

–   تسريب حيثيات الاعتقال -في وقت يُفترض أنه يتّسم بسرية التحقيق- إلى الصحافة والمواقع الإلكترونية المقربة من السلطة.

–  نغمة واحدة تُعزف، ونبرة مُوحَّدة تتردد عبر أتير التعليمات، “اعتقال قيادي في جماعة العدل والإحسان بتهمة الخيانة الزوجية”.. “اعتقال قيادي في جماعة العدل والإحسان بتهمة الخيانة الزوجية”.. “اعتقال قيادي في جماعة العدل والإحسان بتهمة الخيانة الزوجية”..

–  ممارسة ضغوط شديدة ورهيبة على زوجة باعسو السيدة عائشة جوزي، كي تنصاع لضغوط الأجهزة الأمنية، وتؤثّث المشهد المصنوع عبر تقديم التنازل عن المتابعة.

–  رفضت الزوجة الكريمة التهديدات والضغوط، لأنها تثق في زوجها وبراءته. وما دامت النيابة العامة تحركت من تلقاء نفسها كما تزعم، فالمفترض أن لديها كل إثباتات الإدانة. فلِم طلب الزوجة بإسقاط المتابعة؟!

–  هنا، أُسقط في أيدي الأجهزة المخزنية قطعة ثلج باردة. فراغ كبير في الملف كيف يُسَدّ! وورطة سياسية كيف تُحلّ!

–  بعدها، وفي تحول “دراماتيكي” كبير، جاء القرار بتمديد الحراسة النظرية، وانتقلت التهمة (في دَقَّة وَحْدَة) من “الخيانة الزوجية” و”ممارسة الفساد” إلى تهمة ثقيلة هي “الاتجار بالبشر”!

–  ليجد الرجل الخلوق والمعارض السياسي محمد باعسو، الذي عُرف باستقامته ونزاهته وسط ساكنة مكناس ونواحيها، أن الجنحة الملفقة التي قُدّم ملفه بسببها الأربعاء أمام المحكمة الابتدائية، ارتقت وتحولت، بقدرة قادر، إلى جناية كاذبة ذهبت به يوم الخميس صوب محكمة الاستئناف!

–  وليبدأ مسلسل التحقيق في “تهمة من ورق”، ولتُحدّد الجلسة الأولى للتحقيق التفصيلي يوم الخميس المقبل 10 نونبر.

وقد استعدنا شريط الأحداث ناصعا ليحكم الناس، لنستدعي أربعة عناصر من شأنها أن تساعدنا في تقويم سلوك السلطة وأجهزتها في هذا الملف:

أولا: الأحداث نفسها ونسقيتها وتسلسلها؛ خيطها الناظم المرتبك، وتهمتها غير المستقرة.

ثانيا: الموقف السياسي للرجل (الدكتور باعسو) وانتماؤه الدعوي لجماعة لطالما أُلصقت لبعض رموزها وقياداتها، ولكثير من المعارضين النزهاء، مثل هذه التّهم التي باتت مكشوفة.

ثالثا: السلطة وخيارها القيمي الراعي للفساد الأخلاقي بشتى أشكاله، ومنهجها السياسي الاستبدادي القائم على تكميم الأفواه بكل الطرق.

رابعا: محاولة التشويش على جماعة العدل والإحسان وهي تعيش سياق احتفائها بالذكرى الأربعين لتأسيسها، ومبادرتها إلى تنظيم أنشطة متنوعة، وهو ما من شأنه أن يعزز وجودها في النسيج المجتمعي، ويؤثر إيجابا على صورتها لدى عموم المواطنين.

فإذًا، نظام سلطوي يرعى الفساد الأخلاقي بكافة صوره، منزعج من جماعة معارضة تدشن احتفالات لا تعجبه، يبادر إلى رجل من قيادات ورموز هذا التنظيم، فيفبرك له ملفّا أخلاقيا يضربه به ومن ورائه الجماعة التي ينتمي إليها.

الغريب أن هذا المشهد الشديد الوضوح، والذي يقرأه الجميع ويدرك عناصره المتتبعون، أبت سذاجة المشرفين، مخططين ومنفذين، وغباوتهم إلّا أن تضفي عليه المزيد من الانفضاح. ليقف المجتمع على طبيعة السلطة الفاسدة التي تحكمه.

ولنجد أنفسنا مجددا أمام معركة مفتعلة، يختلقها نظام لا يعي جيدا ما تصنعه صنائعه، خاصة حين يتكرر هذا الأسلوب الممقوت وتتوالى تلك التهمة الممجوجة، تجاه جماعة العدل والإحسان وتجاه الأصوات الحرة الشريفة التي تعارض نظام الحكم في المغرب. معركة مفتعلة يخسر فيها قطعا الظالم والمتسلط والمستبد؛ إذ لا تضرب يد النظام إلا وجهه، ولا ينزل السَّوْط إلا على ظهره، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

الغريب أنه في الوقت الذي يتزايد فيه احتقان اجتماعي مُنذر، جرّاء اختناق اقتصادي حاد بفعل سياسات عمومية غير رشيدة، تُضيّق على الناس معاشهم وتسدّ عليهم الأفُق وتفقدهم الأمل، وعوض أن تنكب الدولة على النظر فيما صنعت مؤسساتها، مازالت تكرر أجهزتها المخزنية مثل هذه الأفعال الطفولية التي تورط الدولة في مستنقعات حقوقية وسياسية محرجة محليا ودوليا.

أما جماعة العدل والإحسان، ومِن ورائها أبناؤها وبناتها وقياداتها وعلى رأسهم الدكتور المعتقل محمد باعسو، فتعلم جيدا ضريبة الكلمة الحرّة، والاختيار المستقل، والمعارضة الجادة، والدعوة الصادقة. وقد استعدت لذلك منذ أن أسس إمامها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله منهاجها هذا، ووطّنت نفسها على الصّعاب والابتلاءات، ويمّمت وجهتها صوب الحق، واختطت لنفسها طرق الصدق، إسماعا للفطرة ودفاعا عن المستضعفين، لا تخشى في الله كيد كائد، ولا تتهيّب مكر ماكر. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.