النظرية المنهاجية: المفهوم والوظيفة والمقصد (3/1)

Cover Image for النظرية المنهاجية: المفهوم والوظيفة والمقصد (3/1)
نشر بتاريخ

مقدمة

الأمة في حاجة إلى اكتشاف المنهاج النبوي، هكذا يؤكد الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله على ضرورة المنهاج، ثم يعلل هذه الضرورة من خلال عدة أسباب منها:

1. لربط مسيرة الأمة التاريخية بالنبوة والخلافة الراشدة، ولاستئناف طريقها نحو مستقبل الخلافة الثانية على منهاج النبوة.

2. لتجديد الإيمان في القلوب، وتجديد الدين في الواقع، وللجمع بين نور القلب الذي يصدق بالحق ويخضع له، وبين فهم العقل المنضبط بالعلمية والتجربة والدقة في الحكم.

3. لجبر ما تكسر من تاريخها، وإبرام ما انتقض من عرى الإسلام وعلى رأسها الحكم، ولجمع ما تفرق وتشتت من الموروث النبوي علما وعملا، إيمانا وجهادا، قرآنا وسلطانا، دعوة ودولة، عدلا وإحسانا.

4. لكي يسلك المسلمون طريق الإيمان والجهاد إلى الغاية الإحسانية التي تعني مصيرهم الفردي عند الله في دار الآخرة ، وإلى الغاية الاستخلافية التي ندبوا إليها ووعدوا بها متى سلكوا على المنهاج واستكملوا الشروط..

ذلك المنهاج النبوي الذي كان عملا باهر النتائج، خرج من مدرسته كبار الصحابة، عظماء الأمة، نخبة الإنسانية بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ذلك المنهاج الذي نتج عنه الجهاد الخالد الذي كانت ثمرته “المعجزة التاريخية” التي غيرت العالم أعمق تغيير وأوسع تغيير وأسرع تغيير، ذلك المنهاج الذي به تحول أفراد أنانيون، المحروم المستعبد منهم والسيد القاهر، المستضعفون منهم والملأ المستكبرون، جماعة موحدة قوية تحمل هَمَّ الجماعة، وتسعى لتحقيق أهداف الجماعة، ويموت أفراد لتبقى الجماعة وتعز.

ضرورة اكتشاف المنهاج النبوي وحاجة الأمة إليه تأتي من جانب أمرين مهمين:

– الاستجابة لحاجة في نفس المؤمن الذي يريد أن يتقرب إلى الله بما يرضي الله تعالى.

– الاستجابة لحاجة في نفس هذه الأجيال المؤمنة المتوثبة للجهاد، المترقبة للفتح، المنتظرة موعود الله تعالى.

إن كان للأستاذ حسن البنا رحمه الله تعالى السبق في تأسيس العمل الدعوي الجماعي، فإن للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى قدم السبق في صياغة المنهاج النبوي الذي أودع معالمه الكبرى في كتاب بعنوان: المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا). كتاب يحمل بين دفتيه بعد التمهيد ومقدمات خمسة فصول وهي: فصل اقتحام العقبة، وفصل تجديد الدين والإيمان، وفصل التربية، وفصل التنظيم، وفصل الخصال العشر. كتاب بمثابة الضوء الكاشف لما تتطلع إليه الأمة من مستقبل يبشر بالإسلام.

ولفهم المشروع الذي جاء به المنهاج النبوي نظرية وتطبيقا لابد من استيعاب جهازه المفاهيمي أو ما يسمى بالمصطلحات المنهاجية، مثل: الجاهلية والفتنة، اقتحام العقبة، الخصال العشر (الصحبة والجماعة، الذكر، الصدق، البذل، العلم، العمل، السمت الحسن، التؤدة، الاقتصاد، والجهاد)، ثم كذلك الزيال، الاستضعاف والاستكبار، الرحمة والحكمة، النداء والاستجابة، العمران الأخوي، المجموع… وغيرها.

أما فيما يخص تطبيق مشروعه على أرض الواقع فيحتاج إلى فاعل قوي يتمثل في جماعة المؤمنين التي تقودها قيادة ربانية تجمع بين القوة الإيمانية والإرادة الجهادية.

فما مفهوم المنهاج النبوي؟ وما وظيفته؟ وما مقصده؟

مفهوم المنهاج النبوي

المنهاج على وزن مفعال صيغة اسم الآلة كمفتاح، والصيغة تحتمل المصدرية أيضا كمعراج أو اسم المكان كمرصاد. ومعنى الكلمة لغة يفيد السلوك والوضوح. قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: النهج الطريق الواضح، ونهج الأمر وأنهج وضح. ومنهج الطريق ومنهاجه).

قال الله تعالى يخاطب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه. فاحكم بينهم بما أنزل الله. ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (المائدة: 48). قال عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما: الشرعة القرآن، والمنهاج السنة). فالمنهاج إذن تطبيق للقرآن وتجسيد في حياة الفرد وتاريخ البشر لتعاليمه. المنهاج عبارة عن السنة، والسنة عمل تابع لعلم، عمل تاريخي مرتب في الزمان. فلا تنافي إذن بين التعريف العام للفظة “منهج” وبين تعريف المنهاج إذا ميزنا أن المنهج كيفية بشرية للقول والتعليم والفعل، بشرية محضة، بينما المنهاج قول وتعليم وفعل، بشري نعم، لكن بكيفية جاء بها الوحي وقاد مراحلها رسولٌ من عند اللّه عز وجل.

وفرق بين المنهاج وبين “المنهجية العلمية” من كون المنهجية العلمية موضوعها الكون ونتائج ملاحظتها وتجربتها وافتراضاتها قوانين تحكم الكون وحركته، بينما المنهاج موضوعه الإنسان، ومصير الإنسان في الدنيا والآخرة. والكون وأسراره ونواميسه تابع للإنسان، لا يستغني الإنسان عنه لأنه مجاله الحيوي ومصدر معاشه وعماد بقائه وقوته. ويجتمع المنهج العلمي والمنهاج النبوي في أن عملية ذاك تعطي نتائج كونية وفي أن هذا يعطي نتائج إنسانية.

أمّا المنهاج النبوي، وهو السنة التطبيقية العملية النموذجية، التاريخيةُ بعدُ البشرية المتجددة في الزمان والمكان باجتهاد أجيال الإيمان، فنجدها ونستمدها لفظا ومحتوى وتَوجّها وبشرى للمؤمنين، وبُشرى للمحسنين، وعامِلَ ثقة في موعود الله عز وجل وبلاغِ رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث العظيم المُنبِئ عن العِز المستقبَل الذي ينتظر هذه الأمة المرحومة أصلا، المقهورةَ بلاءً، الصاحية اليومَ، المتيقظة المجاهدة المنتصرة بإذن الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عنه بسند صحيح: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت”.

المنهاج النبوي إذا منهاج تربية وتنظيم جهادي، تعرضا واستعدادا لإقامة الخلافة الإسلامية التي يرضى الله عز وجل عن كل منا إن بذل قصارى جهده لإقامتها على المنهاج الواضح والنموذج المنير، منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم.