مقدمة
اهتم الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله بقضايا الأمة الإسلامية، وتهمم بتخلفها ووهنها واستباحة بيضتها من طرف أعدائها. وعمل جاهدا على مستوى التنظير والبحث والكتابة، وكذا على مستوى الفعل والحركة والتنظيم على رصد مكمن الداء عبر إعادة قراءة التاريخ الإسلامي للأمة، معتبرا أن الانكسار التاريخي الذي وقع بعد الخلافة الراشدة وسيطرة الحكم العاض والجبري هو سبب الداء، وما تبعه من تعطيل للاجتهاد، وانحباس الفقه، وتردي أحوال الأمة عامة، والمرأة المسلمة -وهي الحلقة الأضعف- خاصة.
كما حاول رحمه الله تحديد تجليات هذا الانحدار والهوي على المستوى النفسي والفكري والعقلي في عقبات ثلاث:
1- الذهنية الرعوية. وهي ذهنية النفوس القاعدة التي تنتظر أن يفعل بها ولا تفعل..
2- الأنانية المستعلية أو المتمتعة. يعوق أصحابها عن اقتحام العقبة امتلاء مما هم فيه وطلب المزيد مما هم فيه..
3- العادة الجارفة للمجتمعات المسلمة في تيار التبعية للوضع السائد، المانعة لنا أن نعرف معروفا بميزان الشرع، أو ننكر منكرا يذمه الشرع، فتنة!
ثلاث تغييرات ضروري أن يحدثها الدعاة بتربيتهم وتنظيمهم في الجو الفكري والنفسي والعملي في الأمة [1].
إذن، ففلسفة التغيير في المنهاج النبوي تبدأ من معالجة الأنا المسلوبة، الأنا المستعلية، الأنا القاعدة، وهو ما نجد له سندا في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد، 12).
مفتاح التغيير في المنهاج النبوي هو الإنسان، ذكرا كان أم أنثى. يسعيان كلاهما إلى اقتحام عقبة النفس والهوى والشيطان بالتربية والمجاهدة وإخلاص الوجهة لله تعالى.
أما التغيير المطلوب على مستوى الأمة، فنجد منهاجه في الكتاب والسنة يقوم على مبدأ الرفق واللين والرحمة. يقول تعالى في آخر سورة التوبة لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة، 129).
يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان والترمذي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “إن الله يحب الرفق في الأمر كله”؛ فللمرأة في هذا الفقه الباع واليد الطولى بما جُبلت عليه من الرحمة، فهي قطبها. يقول الإمام ياسين رحمه الله معقبا على الحديث النبوي الشريف: “ما بال أحاديث التدرج والرفق واللين واليسر ترويهما امرأة؟ القلب الرحيم لا شك، وحس المؤمنة المجبولة على تعهد الحياة وبناء الإنسان محمولا في البطن، وموجعا من أجله أثناء الوضع، ورضيعا محنوا عليه، ومفطوما مفصولا برقة، وصبيا يلعب في الحجر، وغلاما مشاكسا، ويافعا ثائرا، وزوجا بعد وأبا. كل ذلك يطلب من المعاناة والصبر واللين والحب والرفق ما تقدره المرأة حق قدره، فتسمعه من الوحي، وتخزنه لنا ذاكراتها. فللمؤمنة في فقه التغيير وتفقيه الرجال بأسلوبه المرتبة الأولى” [2].
لكن ما السبيل لكي تستعيد الثقة وهي الضعيفة المظلومة المستعبدة، فتطلب الزلفى عند الله والسابقة، وترفع الهمة لطلب مقامات الكمال والإحسان؟
ما السبيل إلى توعيتها بالدور المنوط بها في حفظ الفطرة، بل حفظ مقاصد الدين كلها، بتربية النشء تربية واقية حكيمة قرآنية؟
ما السبيل لإشراكها في مشروع تحريري تنموي تجديدي لبناء أمة قوية رائدة، تستشرف المستقبل الموعود؛ مستقبل الخلافة الثانية؟
هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإحاطة بها من خلال استقراء كتابات الإمام المجدد رحمه الله، باتباع منهج وصفي تحليلي، وذلك من خلال المحاور التالية:
المحور الأول: أهمية العامل الذاتي لدى المرأة في التغيير: فهما وممارسة.
المحور الثاني: دور المرأة في التغير انطلاقا من برجها الاستراتيجي.
المحور الثالث: محورية المرأة في التغيير من خلال مشاركتها في التعبئة العامة.
المحور الأول- أهمية العامل الذاتي لدى المرأة في التغيير: فهما وممارسة
انطلق الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله من مفاهيم تجديدية عدة لإعادة الاعتبار للمرأة، وذلك من خلال قراءة تجديدية عملية تضع قطيعة مع زمن التقليد والفقه المنحبس لتسمو إلى التلمذة المباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول رحمه الله “إن تتلمذنا للرسول المعلم الناصح صلى الله عليه وسلم مباشرة بعقلنا يتلقى التعليم، وبقلبنا يتعرض لفيض الرأفة والرحمة، وبسلوكنا يجدد تاريخ الجهاد، وإن أخذنا عنه صلى الله عليه وسلم القرآن كتابا من عند الله هو الضياء والهدى والحياة، كنا على المستوى الرفيع الذي يمكننا من مراقبة الأمور من أعاليها لا من أسافلها” [3]. ومن أهم المفاهيم التي يمكن أن نسوقها في الباب، نذكر ما يلي:
– مفهوم الدرجة
قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة، 226).
“لكن ما مضمون هذه الدرجة؟ أهي تفويض مطلق للرجل يتصرف بموجبها كيف يشاء بدون ضوابط أو أحكام؟ أم هي درجة قيادة ومسؤولية ورعاية؟” يتساءل الإمام المجدد رحمه الله قبل أن يضيف: “إن الإيمان بدرجة الرجال على النساء إيمان بالقرآن، والكفر بها كفر بالقرآن” [4]. لكن القرآن حمال أوجه، إذ يختلف الاجتهاد وفهم النصوص حسب اختلاف الأحوال والظروف، فهي درجة تفاضل وتميز وخيرية كما نجد عند الفقيه الواقعي المفسر ابن كثير رحمه الله. لكن السنة القولية تضع كوابح وحدودا؛ “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”. “الدرجة والرعاية ثابتة للرجل ليقود السفينة ويجنب القافلة الفوضى. ولئن استحالت الطاعة المفروضة شرعا إلى إكراه القوي الرجل الضعيفة المرأة كما أكره الحاكم الغاصب الرجل المقهور، فإن طاعة الزوجة لزوجها وطاعة الذين آمنوا لأميرهم المنتخب على شورى ورضى لا تشم منها رائحة المهانة. بل هي طاعة لله وشرف و قربة” [5].
وبارتفاعنا إلى النموذج النبوي نجد المرأة شخصا محترما مكرما مشاركا، لا كما مهملا، شخصا له حقوق كما عليه واجبات. ونجد الراعي ذا الدرجة رحيما لا جبارا متسلطا.
– المرأة مكرمة مشرفة فاعلة
باستحضارنا نموذج الصحابيات الفضليات، نجد المرأة في العهد النبوي كائنا مشرفا مكرما مؤثرا مشاركا في جميع نواحي الحياة، فهي العالمة المفتية، المجادلة عن حقوقها، المدافعة عن حقوق النساء جميعا باسمهن أمام جمع من الصحابة، والمجاهدة الفذة، المناصرة للدعوة كأنصع ما تكون النصرة، المسعفة والمحتسبة والمهاجرة.. والأمثلة على ذلك كثير. هذه الحقوق لم تكن المرأة لتتمتع بها لو لم يكن لها ضمان من الشريعة.
وفي هذا يقول الإمام المرشد رحمه الله “.. في المرحلة الثالثة من ترقي المؤمنة في معارج الدين فيتحسس قلبها، ويهفو كيانها، وتتوجه إرادتها للتشبه بأمهات المؤمنين ذوات الصون والكمال تتخذهن نموذجا، وتكون عندئذ بما رفعتها همتها كالمخاطبة المشرفة المكلفة لما شرفن به وكلفن به في قوله تعالى: يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍۢ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ۚ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ” [6].
– المرأة وطلب الكمالات
روى الشيخان والترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام”، فالمرأة إذن تملك من المؤهلات الفطرية ما يمكنها من بلوغ درجة الكمال.
فما هي هذه الكمالات التي دلت عليها نظرية المنهاج النبوي؟
1) الكمال القلبي
يقول الإمام رحمه الله: “ليس الإيمان وحوافز الإيمان وكمال الإيمان ومراتب الإحسان حكرا على الرجال، فالشابة التي نشأت في عبادة الله كالشاب تجزى بما يجزى به” [7]. وإلى نحو هذا أشار الأستاذ عبد الحليم أبو شقة رحمه الله في فصل ((المرأة وبلوغ الكمال)) حيث أورد مقالا للحافظ ابن حجر في تعقيب له على حديث أبي موسى الأشعري السالف الذكر، استدل به على “أن السيدة مريم وآسية نبيتان، لأن أكمل النوع في الناس الأنبياء ثم الأولياء ثم الصديقون والشهداء، وخلص الأستاذ أبو شقة إلى أنه إذا كان بلوغ الكمال ممكن بالفطرة فيمكن زيادة احتمالاته بالتربية والاجتهاد لاكتسابه كما هو الشأن عند الرجل” [8].
2) الكمال الخلقي
يمكن للمرأة، بالتربية والمجاهدة والصحبة الصالحة، أن ترتقي إلى الكمال الخلقي الذي لولاه ما ضرب بها المثل في قوله تعالى في آخر سورة التحريم: وَضَرَبَ اَ۬للَّهُ مَثَلاٗ لِّلذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪مْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ اِ۪بْنِ لِے عِندَكَ بَيْتاٗ فِے اِ۬لْجَنَّةِ وَنَجِّنِے مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِے مِنَ اَ۬لْقَوْمِ اِ۬لظَّٰلِمِينَۖ وَمَرْيَمَ اَ۪بْنَتَ عِمْرَٰنَ اَ۬لتِےٓ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكِتَٰبِهِۦ وَكَانَتْ مِنَ اَ۬لْقَٰنِتِينَۖ [التحريم، 11، 12].
وحسن الخلق شرط لازم لأهلية المؤمنة للانضواء في سلك الحركة الإسلامية. يقول الإمام المجدد رحمه الله: “من نقصت أخلاقا وسعة صدر وحلم كانت في الدعوة كالجندي المبتور الأعضاء في ساحة القتال” [9].
3) الكمال العلمي
نطل من بيت النبوة نستهدي من نور مشكاته فنذكر أمنا عائشة رضي الله عنها القدوة التي ساهمت مع أكبر الصحابة في جمع السنة وروايتها حفظا وتعليما وفتوى، يقول الإمام رحمه الله: “العلم وطلبه واستكماله هو نور العقل الذي به تكون المؤمنة متحركة بين ساكنين، متوهجة بين باهِتين، مشمرة بين مترهلين، حية بين أموات. إن لم تكن تأسست بِنْيَتُها النفسية العقلية منذ صباها وطفولتها على قاعدة طلب العلم من المهد إلى اللحد، فمن كمال توبتها أن تنزع عن نفسها رذيلة الجهل، وعطالة الجهل، وأن تتحلى وتتجمل بالمعارف الشريفة” [10].
والكمال العلمي الحق هو طلب علم الوحي. الكمال العلمي الحق هو تعلم القرآن وتعليمه. خير وكمال حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنالة النساء المؤمنات حظهن منه.
المحور الثاني- المرأة والتغيير انطلاقا من برجها الاستراتيجي
كمال المرأة الوظيفي هو تتمة لكمالها القلبي الخلقي العلمي. فما رفع المرأة إلى مرتبة القداسة إلا أمومتها.
يقول الإمام: “إن كمال المرأة الوظيفي وكمال الرجل، أبوين مسؤولين مربيين، هو غاية ما يراد منهما تحقيقه حفظا لفطرة الله، ونشرا لرسالة الله، وخدمة لرسول الله. فما يرفع المرأة إلى القداسة إلا أمومتها، وما يرفع الرجل إلا أبوته، يذكر حقهما بعد حق الله مباشرة لقوله تعالى في سورة الإسراء: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا” [11].
وبهذا فالفكر المنهاجي يعطي للمرأة دورا طلائعيا في صنع مستقبل أمتها، من خلال تربية نشء قادر على الإسهام في تحرير أمته من ربقة التخلف والاستبداد والجهل. وهنا يستعمل الإمام مصطلحا تجديديا هو مفتاح التغيير عند المرأة، وهو مصطلح “البرج الاستراتيجي” أو “برج الحافظية”. فما معنى البرج؟ وما معنى الحافظية؟
البرج الاستراتيجي
نجد كلمة البرج في قوله تعالى وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ [الأحزاب، 33]. تبرجت المرأة لغة أي خرجت من برجها. وفي اصطلاح المفسرين تعني إظهارا لمفاتنها. لكن الإمام رحمه الله يرجع إلى الجذر اللغوي للكلمة، فيستنبط مفهوما تجديديا، يعطي من خلاله دورا بارزا للمرأة في تعبئة الأمة والدفاع عن حصنها أن تطأ حماه الأعداء. يقول رحمه الله “كلمة ‘برج’ كلمة جهادية. والتبرج بالمفهوم الجذري، تخلي المسلمة المؤمنة عن الجهاد”. ويضيف قائلا: “داخل البرج وخارجه رجل وامرأة، لا تنتظر منهما حماية للموقع ولا بطولة في الجهاد ما لم يتحرر الرجل والمرأة من النظرة الدونية التقليدية التي كانت تحيل المرأة إلى عضو مكفول مهمش” [12].
انطلاقا من هذا الدور القيادي يقع على عاتق المرأة تربية جيل مؤهل نفسيا وعلميا وفكريا واجتماعيا ليحصل على موقع الريادة والسبق ليصنع مستقبلا واعدا لأمته.
الحافظية
يقول تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء، 34].
إذا خص الشرع الرجل بوظيفة القوامة ليقود السفينة إلى بر الأمان بما أعطاه الله من مؤهلات، فقد خص المرأة بوظيفة الحافظية. وقد ذكر الشيخ الشعراوي أحد أشهر المفسرين المعاصرين استنباطا جميلا لقوله تعالى وَاليْلِ إِذَا يَغْش۪يٰ وَالنَّه۪ارِ إِذَا تَجَلّ۪يٰ وَمَا خَلَقَ اَ۬لذَّكَرَ وَالُانث۪يٰٓ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّ۪يٰۖ (الليل، 1-2-3-4). حيث أكد بأن الله تعالى أراد أن يلفتنا إلى قضية التكامل بين الرجل والمرأة. والتأكيد على أنها كقضية التكامل بين الليل والنهار [13].
وحافظيتها لا تقتصر على حفظ حقوق الزوج، بل تشمل كل حقوق الله وذلك لقوله تعالى: حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ.
يقول الاستاذ المرشد “جعل الله عز وجل حبل الفطرة ممتدا عبر الأجيال عن طريق الأمومة، مفتولا مبرما، شقاه جسم الجنين ثم الطفل، وروح الطفل يحبو نحو الرجولة وينهض وله من قدوة أمه وكلماتها البسيطة وإخبارها بحقائق وجود الله تعالى وخبر الآخرة زاد منه يستفيض عمره” [14].
إذن المرأة أمنها الله عز وجل على خلقه، وحملها المسؤولية عنه. فهي حافظة له في أحشائها جنينا يتغذى منها، ورضيعا من لبنها، وطفلا مشاكسا، وشابا يافعا. فإن هي أحسنت الصنعة وحفظ الأمانة كان شجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
المرأة حافظة لمقاصد الدين
نعرج إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن جرير الطبري بسنده عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك”؛ يشمل الحديث ملامح الحافظية في الحياة الزوجية، فينم عن الاستقرار والسعادة والسكن الذي يعم البيت المسلم. إضافة إلى أن الحافظية تشمل حفظ الأنساب. وهو أنفس ماتحفظه نساء الأمة بالعفة والشرف، وفي الأموال بالأمانة والاقتصاد. كما أن المرأة بتلقينها للطفل مبادئ الدين وتعهدها لجسم الطفل وعقله تكون حافظة لمقاصد الشريعة من بابها الواسع، كما نجد عند فقيه المقاصد الإمام الشاطبي رحمه الله. يقول الأستاذ رحمه الله: “وهكذا نقرأ حافظية بمفتاح الفهم النبوي فنجدها شاملة مسؤولية لا تنحبس في جدران بيت الزوجية وفي هموم المعاش اليومي. الدين الذي هو رأس المقاصد وغاية الغايات يرضع من ثدي الأمهات الصالحات القانتات الحافظات، وتعهدهن في جسوم الأطفال ونباتها وغذائها وصحتها كتعهدهن للعقل الناشئ يأمرن بالحسن ويجزرن عن القبيح ويجبن عن الأسئلة ويلقن اللغة” [15].
المحور الثالث- المرأة والتغيير من خلال مشاركتها في التعبئة العامة
إن جهاد المرأة الوظيفي من خلال بناء الأسرة اللبنة، الأسرة البرج، الأسرة الخندق، هو مقدمة لجهادها السياسي لإنجاح المشروع الإسلامي: مشروع تأسيس الحكم الراشد على منهاج النبوة. فالمرأة مدعوة للمشاركة في التعبئة العامة من خلال جبهات متعددة:
1) المرأة راعية ومسؤولة.
2) مشاركتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مبدأ الولاية العامة بين المؤمنين.
3) مساهمتها في التعبئة العامة اقتصاديا وعلميا واجتماعيا.
1) المرأة راعية ومسؤولة
روى الشيخان والترمذي وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ”كلكم راع و مسؤول عن رعيته. فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع ،وهو مسؤول عن رعيته”. ذهبت الراعيات المسؤولات المجاهدات، كما انفرط عقد نظام الحكم، وأصبح المجتمع يدين بدين الانقياد، وانتحل أبناءه نحلة الغالب. وهي قولة صاغها ابن خلدون في كتابه المشهور المقدمة، وتعني أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. وإما عبارة دين الانقياد فيقصد به من عادة الخضوع للحاكم المستبد تحت نير الملك العاض والجبري، وهما مرضان ينخران في جسم الأمة: مرض موروث عن انحطاط القرون، ومرض طارئ بسبب الاستعمار، والأمة ضائعة مفككة الأوصال، مسلوبة الإرادة بين هذا وذاك. فالمرأة معنية مثلها مثل الرجل في مداواة جراح الأمة وأسقامها، وهي عقبة يتطلب اقتحامها من العلم مثلما يتطلب من الحلم، كيف لا وهي قطب الرحمة ومنبع الرفق.
يقول الأستاذ المجدد: “الأم مدرسة، الأم منبع، الأم الجاهلة سخنة عين وإمامة ضياع، وامتداد لبؤس الأمة” [16].
2) مشاركة المرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مبدأ الولاية العامة بين المؤمنين
إذا كانت السنة الكريمة نصت على مسؤولية المرأة داخل بيتها، فالقرآن أكد على مسؤوليتها خارجه من خلال ممارسة دور الحافظية في المجتمع لقوله تعالى: وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة: 71).
ما تنسخ مسؤولية المرأة في بيتها مسؤوليتها خارجه إلا كما تنسخ سائر التكاليف الشرعية عنها، وهي لا تفعل، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليفان على المرأة والرجل على حد سواء، مثل ما عليهما من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، شرط أن لا تتعارض مع أمانة الحافظية. يقول الأستاذ رحمه الله: “ما هنا لكن معشر المؤمنات من دليل يقيلكن ويعفيكن من المسؤولية السياسية. إن كانت السنة المطهرة خصصت لكن مجالكن الحيوي حيث تزاولن أمانة الحافظية صالحات قانتات فعموم القرآن أهاب بكن إلى تعبئة شاملة تدعمنها بما يفيض من وقتكن وجهدكن بعد أداء واجبكن التربوي الأساسي. وليست تربية الأجيال إلا ترسيخا للمعروف وإبادة للمنكر. فأنتن تزاولن السياسة في البيت والمدرسة والمعهد والجمعية الإحسانية وميدان الشغل والكسب – لمن كانت منكن كاسبة – أسمى ما تكون السياسة” [17].
لقد شاركت المؤمنات إلى جنب المؤمنين في بيعة الإسلام؛ حيث حضرت الصحابية الجليلة أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية وأم منيع أسماء بنت عمرو بيعة العقبة الثانية، هذه البيعة المؤسسة للكيان السياسي للأمة.
ولما طعن الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه شعرت أمنا حفصة بمسؤولية عظيمة لما أخبرها أخوها عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن أباها غير مستخلف، فاستحلفته أن يكلمه في ذلك.
كما نذكر استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لزوجه أم سلمة رضي الله عنها، في صلح الحديبية حين لم يأتمر بأمره الصحابة رضي الله عنهم، فأشارت عليه بأن ينحر بدنته ويحلق شعره فاتمر الصحابة بأمره بفضل مشورتها.
هذه الأمثلة الناصعة تتضح لنا المشاركة السياسية الفعالة للمرأة.
3) مشاركتها المرأة في التعبئة العامة اقتصاديا واجتماعيا وعلميا
شاركت الصحابيات الجليلات في خدمة مجتمعاتهن على جميع المستويات. فالإسلام أعطاهن حقوقا اقتصادية ومالية لا ضيم فيها. والأمة أحوج ما تكون إلى مساهمة كل أبنائها ذكورا وإناثا في التعبئة الشاملة حتى تتحرر من ربقة الاستكبار العالمي الذي يتحكم في مواردها وقراراتها. يقول الأستاذ رحمه الله “إن أمة مشكلتها الحياتية الأولى هي الخروج من ربقة التخلف لجديرة أن تستفيد من جهود كل أبنائها وبناتها .وللمرأة مكانة تحت دولة القرآن في وظائف التعليم بمراحله لبنات جنسها، والتطبيب لهن، وسائر الأنشطة الاجتماعية وغيرها، بما لا يتنافى مع الحشمة والأخلاق والعفة والتقوى” [18].
إذن هناك مجالات عدة لجهاد المؤمنات يتعين عليهن المزاحمة فيها، خاصة مجال التعليم. يقول الأستاذ رحمه الله: “على المؤمنات التي حباهن الله بالذهن الوقاد والصبر على التعلم وعلى متابعة التعلم من المهد إلى اللحد أن يتخصصن في أداء الفرض الكفائي في التعليم العام بما لا يتناقض مع فرضهن العيني في تربية بناتهن وأبنائهن في البيت”[19]. ويزداد أهمية هذا الجهاد خاصة في مجال الاجتهاد الفقهي الخاص بالمرأة، الذي يغلب عليه طابع الفقه التقليدي الذي ساد خلال قرون الانحطاط: اجتهاد فقه النوازل وسد الذرائع، اجتهاد تنتزع من خلاله المرأة حقوقها الشرعية.
يقول الإمام المجدد رحمه الله: “إنه اجتهاد مزدوج: حقوقك التي كفلها الشرع تنتزعينها من تعسف الرجل، وتتقدمين في العلم لكي لا يحتكر هو الاجتهاد ويميل به إلى سوء استعمال ‘درجته’ ثم واجباتك في صد العدوان على الدين مما يليك” [20].
خاتمة
في مجال موضوع التغيير عند المرأة نلاحظ أن الأستاذ عبد السلام ياسين أبدع مفاهيم جديدة مستنبطة من مشكاة الوحي، مؤثثا لفقه تجديدي. فهو لم يكتف رحمه الله بمعالجة قضية المرأة ودورها في التغيير من خلال كتاباته فقط، وإن شكلت رصيدا معرفيا فريدا، ولكن واكب التطبيقَ التنظيرَ، فأسس جماعة دعوية مميزة، تقلدت المرأة من خلال مؤسساتها المكانة المرموقة. فبرزت منهن قيادات مثلت المرأة أحسن تمثيل في المنتديات العلمية، ورائدات ساهمن في تعليم وتأهيل وتربية شطر الأمة. ولله ذره أن فتح لها الباب على مصراعيه، وأحيى فيها الإرادة والهمة لتطلب درجات الكمال وتسعى إلى مقامات الإحسان، وتشارك في جهاد التعبئة والبناء. وفي هذا يقول رحمه الله: “يتوقف نجاح المؤمنات في جهاد التحرير على قوة إيمانهن أولا، ثم على قوة تكتلهن ومساندتهن للجهاد الشامل تقتحم عقباتِه المؤمناتُ ويقتحمها المؤمنون ليفرضوا وجودهم في كل ميدان. تنظم المؤمنات أنفسهن، قيادتُهُنَّ منهن، مبادرتهن منهن. والشورى جامعة” [21].
[1] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، مصر دار البشير، الطبعة الرابعة، 1997م، ص 23.
[2] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، طنطا، دار النشر للثقافة والعلوم، الطبعة الأولى في مصر، 1996م ، 1/57.
[3] عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، الدار البيضاء، دار الخطابي للطباعة والنشر، ط1، 1989م، ص 44.
[4] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، م. س، 1/58.
[5] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، طنطا، دار النشر للثقافة والعلوم، الطبعة الأولى في مصر، 1996م، 1/42.
[6] عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، مطبعة الأفق، ط 1 ،2000م، ص 293.
[7] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 2/27.
[8] أبو شقة عبد الحليم، تحرير المرأة في عهد الرسالة، دار القلم للنشر والتوزيع، ط1، 1990م، 1/312.
[9] المصر نفسه، 2/49.
[10] المصدر نفسه، 2/61.
[11] المصرد نفسه، 2/193.
[12] المصدر نفسه، 1/111.
[13] مركزية القرآن الكريم في نظرية المنهاج النبوي عند عبد السلام ياسين، بحث الأستاذ أحمد مبارك سالم، ص 1153.
[14] عبد السلام ياسين، العدل، ص 302.
[15] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 2/84.
[16] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 2/61.
[17] المصدر نفسه، 2/270.
[18] عبد السلام ياسين، العدل، ص 311.
[19] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 2/64.
[20] المصدر نفسه، 1/163.
[21] المصدر نفسه، 2/320.