الغرفة (قصة قصيرة)

Cover Image for الغرفة (قصة قصيرة)
نشر بتاريخ

بطيئة هي هذه الأيام.. تزحف بِحَيْرته زحفا مُوطّأ، وكأنها تتعمد ذلك لتتركه نهبا لشكوكه تتآكله شيئا فشيئا.

رمى ببصره من خلال تلك الكُوة المتعلقة بجدار غرفته، والمسماة عبثا نافذة، ونظر هناك.. إلى البعيد.. حيث الأفق الغامض.

ترى ما الذي يختفي هناك؟ وراء الأفق؟ هل هي يابسة أخرى؟ أم محيط؟ أم محض عدم؟

سؤال ما انفك يراوده، كلما تطلع إلى الخارج.

يحاول التملص منه في كل مرة يتهافت عليه، بالاستغراق في تأمل الناس ومراقبتهم وهم يغدون ويروحون.. لكن محاولاته تبوء بفشل ذريع، فيسقط مستسلما لقهر السؤال وإلحاحه المزعج: ماذا وراء الأفق؟

لا يتذكر بالضبط، منذ متى وهو حبيس غرفته، لا يغادرها ولا تغادره، وكأنه انصهر داخل جدرانها، حتى أصبح قطعة منها.. عبثا يحاول الإفلات من قبضتها..

ثم يجيء ذلك السؤال المزعج، ليزيد الطين بلة.. ويُوَطّئ مخاوفه، ويُراكم عثراته بعضها فوق بعض، قاطعة عنه الأمل حتى في لذة بسيطة اعتاد اختطافها لحظة يعبر من أمام نافذته طيف إنسان.

كم تساءل وهو في هذه الخلوة الذميمة، عنه، عن نفسه، عن أفكاره، عن مشاعره، عن مستقبله، عن مصيره.. عن الحزن الذي يلكمه مرة تلو المرة، كلما وقف أمام المرآة، وبحث في جسده، وبين أحلامه، ولم يحر الجواب..

إلى أين؟

إلى متى هذا الاختباء؟

إلى متى ستضمه غرفته إليها بهذا الجنون، وتمارس عليه كل عاداتها السيئة، وتلفظه بعدها طريحا، يئن في وجع من استلبه اليأس وأسرته الشكوك..

لا يتذكر متى دخل هذه الحجرة المقيتة، ولا لماذا؟ هل كان يهرب من شيء ما؟ هل كان خائفا؟ أم أنه وهم الاطمئنان بعيدا عن تضارب الأيام وتغيرها باستمرار..

ربما كان كذلك..

لكنه اليوم، فقدَ اطمئنانه المزيف، وفقد عافيته الموهومة..

أصبحت هذه الغرفة ضيقة عليه.. غير أنه لا يمتلك بعدُ الشجاعة للتخلص من زمامها.. يُحس كأنه قِيد إليها بإحكام.. فلا فكاك.

زفر بامتعاض.. ثم توجه إلى ركنه الأثير.. النافذة.

أطل منها، فرأى في الحديقة المقابلة أطفالا يلعبون ويضحكون.. وكأنهم رقصة بديعة.

–  كم هم محظوظون!! دمعت عيناه وهو يتلفظ بالجملة.

لا يتذكر شيئا عن طفولته، كيف كان، أين كان؟ من أين جاء؟.. أحيانا يشك في أنه كائن حي.

لكن.. شيئا ما خلف كل هذا الضيق والأسى، يحس به يتوهج.. هنا في مكان ما من روحه.. شيء كالبسمة الناعمة الحالمة، يزحف بهدوء إلى أجزائه المتناثرة.. ويلسع ذاكرته.. فتومض الصور أمام عينيه.. وتقفز إلى سمعه تهمس بثبات:

–  كن أنت.

ضم حاجبيه إلى بعضهما، وابتعد عن النافذة، متوجها إلى المرآة متسائلا باضطراب:

– أنا.. من.. من أنا؟ من أكون؟ أي شيء هو أنا؟

تفحص وجهه بدقة، وكأنه يرى نفسه لأول مرة.

تمتم بذهول: – عينين ولسانا وشفتين.. و… و…

وصمت وهو يحاول تذكر شيء ما يعلق بذاكرته ويتخفّى..

دار في الغرفة ودار، يبحث ذات اليمين وذات الشمال، وهو في شدة الحيرة، ووقع الأسى على نفسه الضائعة.

توجه إلى المرآة مرة أخرى، حملها ورماها بعنف على جدار الغرفة..

تشظت المرآة وكادت تؤذيه لولا أنه ابتعد عن مرمى تساقطها في اللحظة المناسبة.

بعد أن سكنت عاصفته، وهدأ، أخذ في تأمل شظايا المرآة بحزن. .رأى فيها نفسه المتشظية، فسقط أرضا واسترسل في النحيب:

–  من أنا؟ كيف أكون؟ أنا لست سوى شظايا.. لست سوى بقايا محطمة.

تعالت أنّاتُه وتسارعت، وبدا كأنه في حالة هستيريا.

لكن.. لا.

صرخ بقوة، بقوة شديدة: – لا.

لقد تعبت، اكتفيت، اكتفيت..

وما هي إلا أن نطق بهذه الكلمات، حتى أحس بقيود كانت تثقل كاهله، قد تلاشت. وأحس بخفة، ورشاقة لم يعهدها في نفسه.

تحرك نحو نافذته المحبوبة، ونظر بتطلع إلى الأفق.. فرآه لأول مرة يتوهج.. وكأنه يحييه.

ابتسم بجذل.. واستجمع نفسه، محاولا التملص من قبضة الغرفة المجنونة، والخروج من عتمتها وتشظيها.

يعرف أن ذلك ليس بالأمر الهين.. لكنه لن يستسلم، ليس بعد أن رأى الأفق يتوهج، أيّا كان ذاك الذي خلفه. سيحاول ويحاول حتى ينجح.

كان الهدف عنيدا.. غير أنه تعلم كيف يصبر حتى يبلغ قصده..

تعلم أيضا كيف يجعل تلك النقطة الباهتة في روحه تتوهج.. بعدما حسبها خمدت وتلاشت كما انطفأت صوى ذاته وتشظت.

هو الآن يتحلّى بالعزم واليقين، أصبح يدرك بوضوح أنه ليس شيئا في هذه الغرفة، وليس حتى جزءا منها. بل هو صاحبها وبيده مفتاحها، يستخدمها أنّى شاء وكيف شاء.. ويستطيع متى أراد الخروج منها..

لم يعد لها سلطة عليه.

..

على قمة جبل.. ذات يوم.. وقف صاحبنا ينظر إلى الأفق الممتد أمامه، وهو يبتسم برضى وارتياح.. ويستمتع بالنسيمات تداعب خصلات شعره، وترفعها برفق من على جبينه المتوهج.. ويترك أشعة الشمس تخترق كثائفه، وتعكس أنوار لطائفه، وهي تتلو آيات الرحمان:

فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة.