فرحة العمر، حينما يلتقي أحدنا نصفه الآخر، فتلتف الروح بالروح، وينعقد القلب بالقلب، وتشتبك الأيدي معلنة بدء عمر جديد يصبح فيه العهد عهدين.. وتظل فيه البوصلة والوجهة واحدة!
يتحرى الرجل الزوجةَ الصالحة ليضفر بذات الدين، وتتحرى المرأة الزوج الصالح الذي ترضى دينه وخلقه، ويربط الله قلبيهما بميثاقه الغليظ المبارك، ليلتقيا داخل بيتهما الذي يتطلعان أن يكون مبنياً على المحبة والتراحم والتعاون على الطاعات، ويكون برجاً يشيدان من خلاله صرحَ الأمة.
ما أعظمها من نية! حينما يكون الزواج عيناً على الآخرة، ونيته الأسمى تجسد حلم أمة: صناعةُ الجيل المنشود المؤمن الصالح الذي ينصر الدين ويساهم في عملية التحرير القادم لا محالة، وهي النية المغيبة والمنسية لدى معظم الأزواج للأسف، الذين ينظرون إلى الزواج نظرة دنيوية محضة! فلا تريد المرأة من الزواج إلا أن تهرب من صفة “العانس”، ولا يريد الأب من الإنجاب إلا سماع كلمة “بابا”. ينجبان ويَخرج أطفالهما “الغثاء” إلى هذا العالم عبئاً عليه، يأخذهم التيار معه، وتجرفهم سيول الميوعة حيث تشاء؛ لأن قلوبهم لم تتشبع بالإيمان، ولم تتلق تربية تجعلهم قادرين على مواجهة فتن محيطهم. ولعل الفيديوهات على مواقع تيكتوك وانستغرام ويوتوب… وما وصل إليه جيلنا من انحطاط وميوعة على مواقع التواصل الاجتماعي خير دليل على أن الزواج استُفرغ من مضامينه وأهدافه!
الزواج بنِيَّة التربية الصالحة، هو أمل الأمة لإخراجها من غياهب الذل والقهر وإعادة عزها ومجدها، وعلى قدر نياتنا نرزق.
ولنَنظرْ لكبر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا، في ظل ما نعيشه من خلاعة وزعزعة للثوابت، فرهاننا هو صناعة الإنسان، أن نُخرج إنساناً سوياً متزناً مرتبطاً بالعقيدة، قادراً على مواجهة قبح العالم، ونلقنه الإسلام الصحيح النقي من المغالطات.
بعد الزواج يصبح الزوجان مسؤولان عن بعضهما البعض؛ عن صلاتهما؛ هل هي كاملة في وقتها، عن حال قلبيهما مع الله؛ هل اقتربا بوجودهما معاً أم أنهما بقيا على حالهما؟! ويسعى كل منهما سعياً حثيثاً ليكون زوجاً صالحاً في الحاضر، ومُربياً أكثر إصلاحاً في المستقبل، حتى يكونا للمتقين إماماً.
تسعى المرأة جاهدة لتحقيق كمالها العلمي والخلقي، ويسعى الرجل لتهذيب نفسه وإصلاحها، يتعلمان القرآن ويبذلان جهداً ووقتاً في سبيل حفظه والعمل به، يتفقهان في علوم الكون والتكنلوجيا، ويقرآن من كتب سيكولوجية الطفل وطرق التربية السليمة والذكية. يسعيان معاً لتهييء بيئة أسرية سليمة؛ حرصاً على أن ينشأ أطفالهما في جو إيماني يتشربون منه رحيق أحسن العادات، ويتربون على القيم الفضلى، ولتُزرع فيهم منذ سنواتهم الأولى بذورُ حسن الخلق ويثبُت في قلوبهم حبُّ ومخافةُ الله.
يدعو الرجل ربه بِنيَّة إبراهيم ربِّ هب لي من الصالحين، وتقول المرأة بِنيَّة مريم إني نذرت لك ما في بطني.
خَلقٌ جديد أمام عينيهما رزقهما الله به، أمانة أودعها الله بين يديهما، خلَقَها على الفطرة النَّقية والسليمة، وهما الآن مسؤولان عن أي تشوه أو انحراف يصيبها!
تعمل الأم على تربيته روحياً ونفسياً وعقلياً وعلمياً، تحرص على أن يكون القرآن هو محور العملية التربوية، تلقن طفلها منذ نعومة أظافره آيات منه، وتزرع في قلبه حبه والتطلع لحفظه والتحلي بما جاء فيه، تصاحبه خطوةً خطوةً حتى يشتدّ عودُ استقامته، تُسكِن في قلبه مراقبةَ الله، وتُدربه أن تكون كل حركة وسكنة لله، تصقل فطرتَه وتهذبها، تبني قناعاته وتوجه الاهتمامات، تنمي مهاراته وتحبب إليه الطاعات.. تُهيئه ليكون صاحب قضية، وتربط مستقبله الشخصي بمستقبل الدعوة ونهضة الأمة، وتزرع فيه اليقين بأنه صلاح الدين هذا الزمان..
يساهم الأب كذلك في التربية بحفظ الحقوق وبالتوجيه والمتابعة وبأن يكون المثال والقدوة، يصاحب ويجالس ويلاعب، يلبي احتياجات أبنائه ويحنو عليهم.
تتعاون الأم والأب -وإن كان للأم النصيب الأكبر- على التربية والتنشئة والحفاظ على الفطرة السليمة؛ يزرعان ويسقيان ويعتنيان، ليكون أبناؤهما شجرة مباركة، يحبهم الله ورسوله.
التربية هي تحدي زماننا، وهي السبيل لاستئصال الذل والقهر وصنع المستقبل المشرق، بصدق النية وحسن الإرادة، بتأسيس التغيير التاريخي وترتيب الزحف السياسي، بتدريب جند الله وإعداد الجيل المنشود، جيل به الآلاف من صلاح الدين.. كلٌ منا من داخل برجه الاستراتيجي، ففجر الإسلام طالع لا محالة، وموعود الله مُحقّق سواء شاركنا فيه أم لم نفعل، فطوبى لمن كان لهم موقع قدم فيه، وطوبى لمن ربى وصنع ذخر الأمة في الدنيا، وذخراً له في الآخرة.