الداعية الناصح.. محطات ناصعة من حياة الإمام عبد السلام ياسين في ذكرى وفاته التاسعة

Cover Image for الداعية الناصح.. محطات ناصعة من حياة الإمام عبد السلام ياسين في ذكرى وفاته التاسعة
نشر بتاريخ

لم تكن حياة الإمام عبد السلام ياسين حياة من رضي المرتع الهامل السهل، المؤثر للسلامة في البدن والمال والأهل والوظيف؛ إذ ما كان لمثل من امتلك الهمة السامقة، والإرادة الصادقة، بعد العناية الربانية السابقة ليقنع بما يقنع به أهل الدنيا. وما وقوفنا في هذه الفقرات لنتحدث عن الرجل حديث التبرك والسلوى، إنما ندبج هذه الكلمات للتذكر والاعتبار، ثم لمن شاء للاقتداء والتأسي بسيرة رجل سكت عنه الكثيرون، وصمت عن مواقفه الكثيرون في الوقت نفسه الذي لم يسكت هو ولم يصمت هو عن قول كلمة الحق التي لا تدع للصادق صديقا حميما ولا صاحبا رحيما.

لقد اجتمعت عناصر عدة ساهمت في بناء شخصية الإمام عبد السلام ياسين وطبعت مراحل حياته العلمية والعملية؛ فهناك المحتد الطيب والنسب الشريف، والبيئة البدوية الفلاحية الفقيرة حيث شظف العيش وقلة ذات اليد، وهناك المسار التعليمي الجامع بين التعليم العتيق وبين التعليم العصري الحديث، وهناك الخبرة المهنية التدريسية والخبرة الإدارية التربوية، وهي عناصر امتزجت واجتمعت لتكسب الرجل معرفة علمية متينة تجمع الأصيل والحديث وتمتح من علوم شتى بدءا بالقرآن والسنة وعلومهما، وبعلم الأصول، وعلوم الفلسفة والاجتماع وبعلوم التربية والمناهج والتخطيط، وهي في تلاقحها أدوات استوعب بها الإمام التراث العربي الإسلامي والمعطيات المعرفية الغربية وفلسفاتها وبعضا مهما من لغاتها، مما مكنه من إنجاز مقاربة شمولية لوضعية البلاد ومن إدراك عميق لواقع العالم وتموجاته والفاعلين فيه. يقول الإمام عبد السلام ياسين ملخصا هذه المرحلة من حياته: “أنا عبد الله المذنب ابن فلاح بربري نشأ في القلة والحرمان المادي، ثم قرأت القرآن فهو كان بحمد الله ولا يزال قراءتي الحقيقية الوحيدة. ودرست تلميذاً لعلمائنا في المعهد الديني. ولم ألبث أن طلبت معرفة أوسع من النقول التي تعيش عليها معاهدنا الدينية. فدخلت إلى الثقافة الأجنبية من المدخل الصعب، من المجهود الفردي، حتى نلت منها ما جعل أقراني يضعونني موضع الشاب النابغ. وجاء الاستقلال فوجدني في منصب مسؤولية إقليمية في التعليم. فعاصرت الأقدمين يافعاً، وعاصرت نشأة الفساد الإداري في مراحله كلها منذ الاستقلال. فإن تحدثت عن العلماء فعن معرفة ومخالطة ومشاركة، وإن تحدثت عن المغرب وشبابه ورجاله وإدارته فعن خبرة سبع وعشرين سنة كنت فيها معلماً، وإدارياً، وخبيراً” (الإسلام أو الطوفان).

في مرحلة ثانية من حياة الإمام عبد السلام ياسين عانى الرجل مما سمي بأزمة روحية ظهرت أعراضها في هذا اليأس الذي لحق الرجل من نفسه ومن الناس، وفي هذه الأسئلة الوجودية الكبرى التي سيطرت على فكر وقلب وعقل الرجل، وكذا في هذا الرهاب الكبير والقلق المفزع من سؤال الموت والمصير، وهي حالة جديرة بالتعجب وبالدراسة، إذ كيف لرجل جمع له الوضع الاعتباري العلمي، والوجاهة الاجتماعية العالية، والمناصب الإدارية الرفيعة، والحالة المادية المطمئنة من عوادي الزمان وغوائل الأيام، كيف لمن توفرت له هذه كلها أن يصاب بهذه الحالة. يقول الإمام عبد السلام ياسين واصفا هذه الحالة: “ولما أراد الله بي خيرا أنبهني إلى نفسي، وكنت عندئذ في أوج ما يمكن أن يطمح إليه مثلي من صحة وعافية وسمعة ومكانة اجتماعية. لم أكن أعلم شيئا عما يسمى بالأزمة الروحية كما وصفتها تجربة الغزالي مثلا، لكن حصل لي يأس من نفسي وتوقان لمعرفة الحقيقة عن وجودي، وكنت نشأت في عبادة الله وتلاوة القرآن منذ صباي، فما أحد أحق بالاستغناء بما عنده مني، وكنت قرأت كتبا كما يعبر عبد الباري الندوي” (الإسلام غدا). ولقد واجه الإمام هذه الحالة الروحية بمزيد من الإقبال على استنطاق مؤلفات اليوجا والاطلاع على تجارب المجوس واليهود والنصارى والتهام كتب المتصوفة، والإقبال الذاتي على المجاهدات المختلفة؛ من صلاة وصوم وذكر وجوع وسهر وانقطاع، فلم تزده تلك إلا انعزالا وضيقا واستيحاشا.

ولم يخرج الإمام عبد السلام ياسين من هذه الحالة إلا بالتقائه بشيخه العارف بالله الشيخ العباس القادري البوتشيشي ليدشن الإمام مرحلة الصحبة الصوفية، وهي الفترة التي استعاد فيها الإمام أو اكتسب توازنه النفسي والعقلي و القلبي، وأقبل على حلقات الذكر والاهتبال بالدعوة إلى الشيخ وطريقته الدالة على الله حتى لقد نُعت الإمام هنا بالحمق والسفه والخرافية والبدعة؛ وماذاك إلا لأنه كتب يذكر فضل الله عليه مصرحا بفيوضات الله الغيبية عليه ضاربا عرض الحائط استعلاءات العقلانية الظلامية صادحا بواردات الغيب وفتح الإيمان بالله. يقول متحدثا عن هذه النعمة عنده الحماقة عند غيره: “ولما أذن الله عز وجل شأنه بعتق رقبتي من الجهل والإسلام الموروث المجهول إلى طريق الحق والحياة، أنهضني لطلب معرفته وكانت أزمة روحية لم يستطع من يعرفونني أن يميزوا بينها وبين الأزمات النفسية المرضية. ولما قيض الله لي شيخاً صوفياً لزمته وأحببته، شاع في جملة الكلام التّافه أن فلاناً حمَق وتصوف. وإنها لمحنة قاسية، خاصةً في زمننا بعد ما جنى فيه محترفو الدين من معممي الصوفية قبل الاستقلال، أن يقال عن المرء كلمة هي الوصمة الكبرى والحجة الدامغة في أعين أهل السطوح صغار الأحلام” (الإسلام أو الطوفان).

لم تكن مرحلة التصوف والارتباط بالتبرك والصحبة الصوفية المنعزلة عن واقع الناس ودنيا الناس لتشفي غليل همة متوقدة لحقتها عناية المولى الجليل فأعتقت ربقتها كما قال من إسلام القعود، فبدأت ملامح مرحلة جديدة تميزت على الخصوص بالتمسك بأهداب الشريعة الغراء الكاملة ونقد الممارسة الصوفية، والتحول من فكر الزاوية إلى فكر الجهاد، وهي المرحلة التي دشّنها الإمام بعد بذل جهد جهيد لنقل الزاوية الصوفية المستقيلة عن الواقع إلى مضمار التهمم بالشأن العام برسالة الإسلام أو الطوفان، تلكم الرسالة التي جاءت في سياق ذاتي تميز عند الإمام بالتحرق الكبير على وضع الإسلام والمسلمين، وفي سياق موضوعي تاريخي اتسم بطغيان الحاكم وضياع النصيحة واستقالة العلماء، فكان أن استخار الله عز وجل واستشار صاحبيه في كتابة رسالة لملك المغرب الحسن الثاني، وما أدراك ما الحسن آنذاك؟ وما أدراك ما زمان إرسال الرسالة ودرجة القمع العظيم الذي كانت البلاد تعيشه إذاك؟

لم تكن الرسالة بحثا عن مجد شخصي أو ادعاء لبطولة وهمية، إنما كانت قياما بواجب النصح الشرعي الذي أمر به الله عز وجل العلماء ورسوله الكريم لما دُعُوا إلى الصدح بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام إلى السلطان الجائر لأطره على الحق أطرا، فهي على هذا كانت نصيحة شرعية فيها دعوة إلى الله ونصح لولي الأمر. ولم تكن الرسالة مجرد كلمات مرصوصة وحذلقات لغوية بل كانت أرضية تصورية جامعة شاملة لتوصيف تشخيصي دقيق للحالة العامة للمغرب ملكا وشعبا وعلماء ووضعا اجتماعيا وسياسيا، وإطلالة من أعالي التاريخ على انتقاض الخلافة النبوية ونشوء الحكم العاض والجبري وفساد البطانة وتخلي العلماء عن مهامهم التاريخية في الدعوة والنصح، وكانت إلى ذلك عرضا واصفا لمنهاج التغيير الإسلامي على قاعدة المنهاج النبوي واقتراحا جريئا للتوبة العمرية. وكان الرد على النصيحة وعلى الرجل الداعية وصفا بالجنون واعتقالا وسجنا بدون محاكمة، وجمعا للرسالة من الميدان وإعداما لنصيحتها لم يكتب له الفلاح، ولم يكن ذلك إلا دليلا على الجور والاستبداد اللذين هما عدة المخزن المغربي منذ زمان، وسبيل الظالمين في كل زمان.

بالخروج من السجن سيدشن الإمام عبد السلام ياسين صفحة أخرى من صفحات الثبات واليقين في موعود الله عز وجل وبشارة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بولوج المسجد وإلقاء دروس الوعظ والإرشاد، فمنع منها ليفتح بيته لحديث الثلاثاء الذي احتضن المتلهفين على سماع دعوة الإسلام الصادقة الصادحة الصادعة بالحق دون مواربة ولا اختفاء، وبعدها أسس مجلة الجماعة تيمنا بمستقبل يجمع فيه الله شمل الأمة في جماعة المسلمين ويقوي رابطتها، وأصدر فيها المنهاج النبوي الذي سيؤسس به لتصوره الدعوي التربوي الفكري لبناء الإنسان وتشييد العمران، وهو المنهاج التصوري الذي سيلتف حوله الصادقون من أبناء هذا البلد ليكون العلم الذي وجه ولوج العمل الإسلامي من بوابة أسرة الجماعة بعد محاولات جمة لجمع شمل العاملين في حق الدعوة الإسلامية، والانطلاقة الأولى لمشروع جماعة العدل والإحسان.

بتأسيس جماعة العدل والإحسان دخل الإمام عبد السلام ياسين مرحلة التنزيل العملي لمشروعه التغييري العام الذي ينبني على تربية الإنسان على الترقي في مدارج الدين، وعلى اكتساب العلم الدال على الله وعلى امتلاك العلوم المختلفة، وعلى تحرير الإرداة للتدافع في المجتمع لبناء مجتمع العمران الأخوي، وهي مرحلة ستكون أضلاعها الثلاثة واضحة جلية في الجمع بين الاشتغال التربوي على تنمية الإيمان، وبين الاشتغال على تنظيم الذات بناء للصف ورصا للجسم، وعلى التهمم الدعوي والحضور في المجتمع وفي مختلف مناحي الشأن العام زحفا إلى مواقع المشاركة المجتمعية نصرة للمستضعفين وإقامة للعدل. وستكون هذه المرحلة عامرة بمواقف الرجولة القوية بدءا بمرحلة الحصار العشري للرجل بين جدران بيته، وانتهاء برسالة النصح الجديدة المتجددة لمن يهمه الأمر من الحاكم والدائرين في فلكه، مرورا طبعا بالتأليف والكتابة الناصعة في عديد من مجالات التربية والفكر والسياسة والأدب. دون أن ننسى الاستمرار الدؤوب -حتى أن أذن الله بالالتحاق به- في التذكير الدائم المتكرر بالله واليوم الآخر والاستعداد للقاء الله، وفي الدعوة إلى الله ودلالة الناس على الله، وفي الجهاد الشامل لتحقيق العدل بالقول والحال والفعل، مع الاستبشار الدائم بأن الغد للإسلام والمستقبل للمسلمين.