يعتبر الشباب في كل مجتمع قلبه النابض، ومشكاته المنيرة التي يضيئ بها حاضره ومستقبله، ومعياره الناطق بتقدمه أو تخلفه. فالشباب بغناء فكره ووجدانه، ومضاء عزيمته وحركيته، له في سيرورة كل ثورة مركزية فعل ومحورية تأثير. لذلك كان الاستثمار في تنشئته وبناء شخصيته استثمار في بناء أمة قوية وحضارة مبدعة، وإذا كان الشباب قلب المجتمع فالطلبة قلب الشباب، والحركة الطلابية بما تتيحه من فضاءات للتدريب والتأهيل، وبناء الشخصية الواعية المؤثرة، مدرسة لها بالغ الأثر في بناء نخبة المجتمع وأطره وقادته عبر الأزمان.
وفي دول الربيع العربي كان الشباب عموما والطلاب خصوصا طلائع الحراك المجتمعي المطالب بالحرية، واصطفت هذه الحيثية في مراحل الانتقال الديمقراطي أو الثورة المضادة، في قوى اتخذت مواقف بحسب قناعاتها ومرجعياتها، وكان لها من جديد عميق الوقع على الرأي العام في ظل حالة الاستقطاب الكبير الذي تعرفه هذه الدول. واعتبر الفضاء الجامعي بؤرة للحشد للأطروحات المتباينة والدفاع عنها.
فهل كانت الحركة الطلابية في دول الربيع العربي في مستوى الوعي والتعاطي المطلوبين مع قضية التغيير؟ وهل استفادت من رصيد مواجهاتها مع أنظمة الاستبداد؟ وما الأدوار المطلوبة إليها في مختلف مراحل التغيير؟ وما تحدياتها دون ذلك؟
1. نظرات في التاريخ والحاضر
إن النظر في إسهام الحركة الطلابية في الواقع الثوري الحالي يكون موضوعيا إذا أسسنا له بتأملات في تاريخها المجيد نسبر من خلالها أغوار هذه الممارسة وزخمها، وتأثيرها في واقع الأحداث الجارية اليوم. فتاريخ الحركة الطلابية يمكن تحقيبه إلى أربعة مراحل تباين فيها “الفاعل التاريخي” وعيا وفعلا في المجتمع وحركته، وتأثرت التجارب خصوصا في تدبير الصراع مع أنظمة الاستبداد ببعضها وغالبا ما أدى تشابه هذه المقدمات إلى خواتم متماهية.
– الحركة الطلابية ومواجهة المستعمر
اعتبرت هذه المرحلة مفصلية في تشكل مفهوم الحركة الطلابية لارتباطها الوثيق بالحركات الوطنية التحررية آنذاك، ولعب الطلاب دورا مهما في بناء المقاومة الشعبية والسياسية ضد المستعمر من داخل الجامعة وخارجها، بل وأنتجت هذه الحركة رموزا غيرت وجه التاريخ وقلبت موازين القوى من أمثال الشيخ محمد بن عبد الكريم الخطابي، خريج جامعة القرويين، وطلبة جامع الزيتونة بتونس، وغيرهم من المقاومين الذين تخط إنجازاتهم بمداد الفخر. ويمكن القول بأن خطاب الوحدة ووحدة الهدف ووضوح الخطة ونضج الفاعل عوامل جعلت إسهام الحركة الطلابية في هذه المرحلة جليا وقويا.
– الحركة الطلابية وتحديات بناء الدولة الحديثة ومواجهة الأنظمة الاستبدادية
بعد الاستقلال الصوري أو ما سمي بـ”الاحتقلال” 1 الذي حظيت به دول العالم المستضعف، وانجلاء شكليات الاستعمار مع الاحتفاظ بروحه من خلال وكلائه المصنوعين على عينه في مدارسه التغريبية، انقسم الفاعل الطلابي في وجه هذا الاحتلال الجديد إلى خطين من المقاومة: خط المواجهة المسلحة، وخط النضال السياسي. ووجد في المدارس الإيديولوجية المختلفة آنذاك مرجعيات سندت وأصَّلت لممارسته الميدانية في الجامعة والمجتمع، فأنتج هذا التمايز على المستوى الذاتي واقعا جديدا غابت فيه الوحدة وتعددت فيه الإطارات الطلابية، فأثر تشرذمها على موقعها الاستراتيجي في المجتمع. وعلى المستوى الموضوعي أصبحت الحركة الطلابية منفردة في خط المواجهة المباشرة مع أنظمة الاستبداد ومخططاتها، بعد أن تراجعت خيارات القوى المجتمعية الأخرى وعطاءاتها النضالية وتراجع معها تدريجيا تغلغلها في المجتمع وقدرتها على تحريكه والحفاظ على محورتيه في حماية مصالحه وثرواته.
– الحركة الطلابية وبروز الفصائل الاسلامية
بعد توالي الانتكاسات وفشل الحركة الطلابية في قيادة المجتمع منفردة وتعرضها، قيادات وقواعد، لصنوف القمع والتنكيل، كان حقيقا أن يبرز في الواقع الطلابي صوت يعيد للحركة الطلابية نسق رسالتها ويجدد في أدوارها ويصحح ما انحرف في مسارها، وتزامن ذلك وظهور الصحوة الاسلامية التي رفعت قيم التجديد في مؤسسات المجتمع، فظهرت بعد مخاض عسير فصائل إسلامية شكلت امتدادات للتيارات الإسلامية في بلدانها رفعت نفس الأهداف وتبنت نفس المرجعية. فكان لها زخمها المهم في نسق تجديدي حاولت أن تقفز من خلاله على أخطاء الأمس ونالت هي الأخرى ما نالت من قمع الاستبداد وسطوته.
نخلص بعد النظر في هذه التجربة المهمة إلى أن الحركة الطلابية أدت أجمل وظائفها عندما كانت جزءا من حركة مجتمعية تغييرية شاملة، غير متصدرة ولا منفردة، وبهوية ومشروع واضحين منسجمين ومنطلقين مع أصولها الدينية والفكرية والتاريخية.
2. الحركة الطلابية والربيع العربي، أي تحديات؟
لعل موقع الحركة الطلابية المتقدم ومواقفها المناهضة للسياسات اللاشعبية للأنظمة الاستبدادية جعلها أقرب مكون معبر عن إرادة الشعب ومدافع عن حاجاته الحقيقية ووفيا لآماله التحررية، وجعلها من جهة أخرى في مواجهة مباشرة مع دوائر القرار ومواقع السلطة، الأمر الذي جعل منطلق تحدياتها في واقع الاستبداد بنيويا مرتبطا بالنظم السياسية الاستبدادية الساعية لخلق واقع سياسي مطاوع مفصل على المقاس، يخنق ويحاصر كل معارضة حقيقية متحرر قرارها، واقعي ومستقبلي مشروعها، سعيا لتركيعها أو استئصالها. وبعد أن هبت نسائم الربيع العربي وتحررت الحركة الطلابية من تحدياتها البنيوية لتلعب دورها في الثورة أصبح لزاما عليها تقييم زخم إضافتها لحركة المجتمع الثورية وتقويم ممارستها والنظر في التحديات الذاتية المرتبطة بها وبفضاء اشتغالها والتي كان للأنظمة الدور المحوري في ظهورها وتعميق أثرها، ولعل أهم ما يمكن رصده منها:
– التشرذم الطلابي، وتوظيفاته السلبية
لا يمكن القفز على أن الجامعة كانت ولا تزال بؤرة تتطارح فيها الايديولوجيات المختلفة فكرا وممارسة، وقد تنوعت خيارات الممارسين الطلابيين في العالم العربي والاسلامي بين تعددية الإطارات التمثيلية للجماهير ووحدة الإطار الجامع، وكلها آليات تدبيرية من شأنها أن تنشئ واقعا سليما خادما لرسالة الحركة الطلابية ما لم توظف سلبيا في إذكاء الفرقة وتشتيت الجهود وخدمة أجندات مراكز مقاومة التغيير والمتربصين بالشعوب وثوراتها، فالاستثمار في الوحدة والائتلاف والبحت عن المشترك وتقويته وتوحيد الجهود يجب أن تكون رهانات القيادات الطلابية في كل مراحل الثورة.
– الشخصية الطلابية وسيادة العزوف الحركي والذهنية الانهزامية
ظاهرتي العزوف الحركي والذهنية الانهزامية الانعزالية إشكاليات من تركة الأنظمة البائدة وسياسات القوى الاستكبارية العالمية تجاه الشعوب المستضعفة، يتحمل بقدر مهم مسؤولية حلها ومقاربتها المقاربة الصحيحة، إلى جانب الفاعلين الآخرين في المجتمع، كل مكون يتصدى لتأطير الطلاب في الجامعة وخارجها، سواء أكان النسق وحدويا أو تعدديا، وتجاهلها انحصار، وبناء على غير أساس سليم، وحصر لفكرة سامية ورسالة نبيلة ما وجدت إلا لتحملها وتطورها وتتناقلها الأجيال المتعاقبة. فلابد من حفز الطالب إرادة وهمة، باعتباره المخاطب بكل مشروع مجتمعي إلى الانتقال من واقع المشاهدة إلى واقع المشاركة ومن حضيض التردد والأنانية إلى سمو المبادرة والاقتحام وحمل هموم الأمة وخدمة قضاياها.
– العنف الجامعي، والحروب بالوكالة
العنف كما عرفه الدكتور زكريا يحيى: سلوك إيذائي قوامه إنكار الآخر، واستبعاده عن حلبة التغالب إما بقهره، وإما بنفيه إلى خارج الحلبة، وإما بتصفيته معنوياً وجسدياً. لذا فإن معنى العنف الأساسي هو عدم الاعتراف بالآخر). وللعنف أوجه منها العنف الفكري ومنها العنف العملي، وكلها سلوكيات تظهر حين تنسد قنوات التواصل الطبيعية بين البشر، فتخرجه عن طبيعته الحوارية وفطرته الخيرية. والعنف بالجامعات ظاهرة ضاربة في عمق التاريخ ارتبطت مسبباتها إما بنزعات فكرية إقصائية، وإما بتصفية حسابات سياسية بين خصوم تكون الجامعة فضاء لها، وإما بأياد سلطوية خفية تغدي العصبيات وتصنع “حروبا” بالوكالة. والحركة الطلابية مدعوة في مراحل الثورة والانتقال الديمقراطي إلى إعطاء القدوة في قدرتها على إدارة خلافاتها الايديولوجية بآليات حضارية وأخلاقية تنصت لصوت العقل والحكمة وتعلي مصلحة الوطن وتضحية أبنائه ودقة المرحلة وخطورة ما يحاك فيها لشعوبها.
3. رهانات الحركة الطلابية وأدوارها في سيرورة التغيير والبناء
إن الحركة الطلابية العربية والإسلامية في زحمة الأحداث ووقع الحقائق المتسارعة ومخططات عرقلة الثورة وسيرورتها، لمدعوة إلى تجاوز عقباتها وخلافاتها والإسهام بوعي ناضج وشمولي في حركة الأمة بما يتيحه لها موقعها إلى جنب الفاعلين الآخرين في منظومة التغيير والانتقال إلى دولة الإنسان. يكفيها شرفا ما قدمته وتقدمه إلى حد الآن من قوة تأطير وسعة اقتراح وتنظير، رغم المشاريع الاستبدادية الهادمة المحبطة، التي لم تتردد يوما في الكيد لها ولكل حركة مقاومة ممانعة. ومطلوب إليها أن تبقى أمل الأمة المضيء الذي يبث معاني العزم والهمة والإرادة فيمن فقدها، والحركة التي تحيي في الشعوب بحيويتها وفتوتها الفكر والقلب والعزائم.
وتحتاج مع ذلك لتوحيد جهودها لاستعادة موقعها الاستراتيجي والطبيعي ضمن حركة الأمة التغييرية والبنائية حتى تستكمل الأمة ثورتها وينعم الإنسان بإنسانيته الكاملة وكرامته الحقة فينطلق لبناء شخصيته المتوازنة قلبا وفكرا وحركة ورسالة في الحياة. ولابد لها بعد ذلك من تمليك هذا الرصيد للأمة باعتبارها أصلها وسندها، ولأجيالها المتلاحقة حتى ينكب كل طالب في كل زمن على مهماته بوعي مكتمل بموقعه وبحاجات مرحلته في نسق بنائي مستقبلي يعيد للأمة ريادتها ومكانتها.