فارقت أمها بقلب جريح، وفارقتها هي الأخرى بفؤاد مكلوم، ولوعة البعاد المؤقت تمزّق الحشا.. بعدما قرّر الطبيب أن تمكث الأم في المستشفى لبعض الوقت حتى يتأكد من شيء مريب شك في وجوده. أما الصغيرة فأخفت دمعتها، وأمّا الأم فلم تستطع؛ وتدفقت عصارة الألم المصهورة بنار الفراق من عينيها الحانيتين على فلذة كبدها الوحيدة التي هبّت عليها، بعد سبع سنوات عجاف، كنسمة رياح البشر والخير والقطر.
إنه ألم فراق الأحبة في سن الصبا، إنه اليُتم المؤقت، وحكمه حكم اليُتم الحقيقي الذي يُحدثه الموت، إنه نفس الألم، نفس الإحساس، نفس النّفس، عين اللظى. يشعر به الصغير الذي فارق أمه إلى الأبد، ويشعر به الصبي الذي غابت أمه في دهاليز مستشفيات الموت ببلدنا الحبيب، ويشعر به الشّاب الذي مزّقت سياط الفساد والاستبداد قلبه وقالبه، فامتطى صهوة قارب الموت ومضى يحلم بالعقد الذهبي الجميل الذي سيحمله يوما وهو عائد من “جنّة” “بني الأصفر” ليرصّع به عنق أجمل امرأة في عالم حبه وألمه وتضحياته.. أمُّه الغالية.
هو هو.. نفس ما يشعر به المغرّبون جميعا عن أوطانهم، حينما يتيمّمون طريق العودة إلى ديار المهجر الطويل ليلها، القارس بردها.. إحساس لا تخفف من شدة مرارته إلا جرعة الأمل في زيارة الصيف الباهظة الثمن، حين سينعمون بتلك النظرة الحانية، واللمسة السانية، والحضن الدافئ، من الغالي والغالية.. ولينفطر القلب طول العام، ما دامت ستأتي لحظة اللقاء هاته لتبدد الآلام.
كانت الصغيرة – ذات الستّ سنين – أربط جأشا من أمها. وحاولت، بل استطاعت أن تحبس أنفاسها، وتئد بنات عينيها قبل أن يتلصص عليها أحد. تبكي خفية، حتى إذا ما كلّمها أبوها، مسحت وجنتيها بسرعة وأجابته.
من الدار البيضاء إلى الصويرة، كان هذا حال الصغيرة، حتى إذا ما ولجت -هي وأبوها- بيتهم الذي أضحى موحشا في غياب صاحبته، ودخل الأب الحمّامَ ليتوضأ، دخلت هي إلى الحمام الثاني، وفتحت المجرى لعينيها في غيابه، لئلاّ ينفجر السدُّ الهائج في حضوره، فيفتضح أمرها وتنهزم.. وهي تكره الانهزام.
اتكأوا فوق سريرهم الذي أضحى باردا كبرودة ديار الغربة، وحاول جاهدا أن يسلّيها ويتيه بفكرها في عالم الأحلام السعيدة، لعل مرارة الفراق المؤقت تمتزج بوهم ما كان يحبك من خيوط لعبة النسيان، لكن دون جدوى. ولم يسعفه إلاّ تعب ذلك اليوم الشاق الذي بدأ عند الصغيرة في السابعة صباحا خبرا، وانتهى في الثانية عشر ليلا حقا وصدقا، بعد رحلة مدارس التعذيب والساعة الإضافية المفروضة علينا قهرا ممن غلبونا بالسيف وعاملونا بالحيف، ووسائل النقل المكتظة وسفر أليم طويل عمره أربع ساعات ونصف.
ونامت الصغيرة “رجاء”، وتوجه أبوها إلى الله بالدعاء أن يحقّق الرجاء، ويصرف البلاء، وينعم على زوجه الحبيبة بالشفاء.
في الغد أجرت “أم رجاء” التحاليل المعتادة التي كانت تقوم بها كل يومين، فاتضح أن الأمور بخير وليس هناك ما يدعو للقلق..اتصلت بزوجها منهوكة تبشره بلطف الله، وتستشيره ماذا تفعل. فقال لها: اذهبي إلى المحطة واستقلّي أول حافلة وعودي أدراجك إلى البيت.
لم تكن “رجاء” تعلم بأن أمها عائدة إلى البيت.. لذلك بمجرد أن عادت من المدرسة ظهرا، وكان اليوم يوم أربعاء، ولن تعود إلى المدرسة بعد الظهر، اغتنمت فرصة غياب والدها – إذ لم يكن معها في البيت إلا جدتها – وأفرغت ما كان يتزاحم في صدرها من مشاعر الألم على الورق. تارة كتابة، وتارة رسما تعبر من خلاله عن لوعة الفراق ومرارة البعد عن أمها.
لما قرع الباب بعد العصر، تساءلت “رجاء” من سيأتينا في هذا الوقت وأمي غير موجودة؟
سألت: من بالباب؟
فإذا صوت أمها يمخر عباب ذلك البحر اللجي من المشاعر المرهفة والهواجس التي كانت تميل برجاء تارة ذات اليمين وتارة ذات الشمال، كسفينة خرقاء وسط المحيط في جو عاصف.
ارتمت في حضنها، ولست أدري من ارتمى في حضن الآخر، لعلهما ارتميتا في حضن بعضهما، سالت كالندى أدمع من الجانبين، ثم علا صوت الضحك.
مجنونتان .. هذه الصغيرة وأمها.
أخذت “رجاء” بيد أمها، وراحت تطوف بها في معرض صورها وكتاباتها الملصقة على الجدران..
عاد الأب من العمل متأخرا، استقبلته الصغيرة منتشية وكأنها انتصرت في حرب عبوس ضروس.
قالت له والدنيا لا تسعها: عادت أمي، عادت أمي.
قال لها: جيد، أرأيت.. لقد قلت لك بأن الأمر لن يطول.
جلس يحدّث “أم رجاء”، فمدّت له يدها خلسة وأعطته قطعا صغيرة من الورق. فتحها فوجد مكتوبا عليها:
“البيت دونك خراب.. يا أمي”.
“لا حياة دونك.. يا أمي”.
“اشتقت إليك يا أمي”.
“أمّي.. أمّي.. أمّي.. أحتاجك يا أمّي..”.
كان يعلم أن حمولة الكلمات أكبر بكثير مما تعنيه الألفاظ والتعابير.. اغرورقت عيناه بالدمع.. حاول أن يتماسك.. لم يستطع.. فقام مسرعا إلى الحمام. جادت مقلتاه.. أرخى لهما العنان.. آه، كم يخفف هذا الدمع من آلام وأحزان.
حفظ الله لنا أمهاتنا الغاليات، وأجارهن من عذاب النار، ورزقهن جوار الخيّرات والأخيار، في مقعد صدق عند العزيز الغفار.
وصلى الله وسلم على النبي المختار، خاتم الرسل الأطهار، وعلى الآل والصحب الأبرار، ما جنّ الليل وأشرق النهار.