مقدمة
نظرتان عامتان غالبتان في مقاربة شخصية الأستاذ عبد السلام ياسين، نظرة تراه المتصوف خريج الزاوية الغارق في روحانيات الأوراد والأحوال حد الخرافة، ونظرة تراه السياسي المناضل القائم ضد الظلم والقهر حد التهور. وكلا النظرتين لا تنصفان الرجل لما غيبتا النظرة إليه من زاوية ما هو عليه حقا بعيدا عن “الكليشيهات” المنمطة التي لا تستطيع قراءة التجديد الذي جاء به إلا من خرم إبرة زوايا الفقه المنحبس أو ثنايا البحث المعمل لأدوات التحليل النضالي المفكك للظاهرة الطافية على السطح، “ظاهرة الإسلامولوجيا” عندهم.
هناك مساحات شاسعة يشغلها فكر الأستاذ عبد السلام ياسين تجعله يستعصي على مقاييس مقاربة النظرتين الآنفين، بيد أن الذي يهمنا هنا أن نقف عند الجانب البيداغوجي في شخصية الرجل عبر تحديد معنى التربية عنده وعلاقتها بالتعليم، ومن خلال الوقوف عند مؤلفاته التربوية في المجال لعلنا نفتح نوافذ موصدة تسهم في إنصاف الرجل وفهم الرجل فيما يقترحه من تصورات تربوية يسمها بالبيداغوجيا الإيمانية.
أولا: في معنى التربية عند الأستاذ عبد السلام ياسين
يرجع اللغويون بكلمة التربية في الأعم الأغلب إلى معاني النمو والتنمية والتقويم والتثقيف والتهذيب. وبعودتنا إلى بعض معاجم اللغة العربية سنجد أن لكلمة التربية دلالات لغوية متعددة دائرة مدار الإصلاح والتغيير إلى الأفضل، والتنشئة وإنماء الإنسان ورعايته منذ الصغر، والتغيرات التي تقع على الإنسان خلال مراحل نموه، والتولية والقيام على أمر الإنسان [2].
وكيف ما كان الأمر، فإن التربية في الاصطلاح عملية سيرورة متتالية ومتصلة تستهدف الفرد منذ طفولته في مختلف جوانب شخصيته العاطفية والعقلية والجسدية والسلوكية من أجل بناء شخصيته الذاتية و الفردية وإدماجه في نسق المجتمع الذي يحياه بحضارته وأخلاقه وثقافته وقيمه، وذلك عبر “تنمية الوظائف الجسمية والعقلية والخلقية كي تبلغ كمالها”، وهو معنى يبرز اشتغال التربية على الأبعاد الأساسية المكونة للشخصية الإنسانية، والمتجلية في المناحي العقلية والوجدانية والحركية السلوكية، بهدف بناء شخصية سوية قادرة على الاندماج في محيطها المعيشي، فاعلة منتجة، مبدعة للمواقف الخلاقة [3].
يستند الأستاذ عبد السلام ياسين في فهم التربية إلى المعنى اللغوي القائم على التنمية والتقويم ليربطها بالمعنى القرآني والنبوي بما هي في نظره “تغيير باطني لنفس الإنسان” [4]، و”معالجة لمادة إنسانية وشخصية لها ماض وبيئة اجتماعية واستعدادات”، وهو ما يقتضي عنده حلما وصبرا ومداراة [5].
إن المعنى العام للتربية عند الأستاذ ينبني على مجموع العمليات القلبية التي تحدث في ذات الإنسان بفعل المربي فتغير نظرته إلى ذاته ونظرته إلى العالمين، فتحدث تلكم النقلة تغييرا في الواقع يتغير به وجه العالم من حوله، وذلك من خلال الاشتغال على القلب إيمانا، وعلى العقل حكمة، وعلى الجسد حركة إيجابية، وعليه تكون التربية عنده عملية تغييرية للإنسان قلبا وعقلا وإرادة من خلال تجديد الإيمان في القلوب عبر التميز بخصائص أساسية، فهي تربية نبوية أصيلة، شاملة متكاملة، جهادية متدرجة، متوازنة ووسطية، مستقبلية، علمية وعملية، تغييرية وجمالية [6].
إن إعادة بناء الإنسان وتشكيله في ذاته وشخصيته وحركته عقلا وقلبا وإرادة، وهي من مهام المدرسة والتعليم الرئيسية، عمليات بنائية تقتضي أن تسلك التربية بالمعنى القرآني في مختلف أجهزة ومؤسسات المنظومة التربوية التعليمية بدءا من الأسرة إلى المدرسة إلى المسجد إلى الجامعة والمعهد، ونقل هذا المعنى إلى الفضاء المدرسي العام يربطه الأستاذ بجملة عوامل على رأسها فاعلية الأم في الأسرة، ومنها الفعالية التأثيرية للمدرس اليقظ قلبا المتحرر عقلا، و منها أيضا فاعلية المسجد، و كذا تجاوز التسيب إلى الانضباط، هذا إلى جانب ربط التعلم والعلم بالمعنى القرآني المحرر للإنسان.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين ملخصا هذا المعنى: “التربيةُ أم ومدرسة ومسجد. والتربية خروج من حَيِّزٍ متسيّب إلى فضاءٍ منضبط. والتربية تعلم وعلم. والتربية مؤَثِّرٌ استيقظ قلبه. وتحرر عقله. التربية دخول في حيطة التكليف، وتَسَرْبُلٌ بسِربال الشريعة، في كَنَف الشريعة. وإذا بالمؤثِّر على طريق الاستقامة، على الطريق، لا في نهاية الطريق بوجه من الوجوه، الطريق صاعدة، شاقة، كلها عقباتٌ إلى الموت. الإنسان في كبد ما دام في هذه الدنيا” [7]. وهذا نص يكشف لنا عن معنى جليل يستقيه الأستاذ عبد السلام ياسين من دلالة التربية بمعناها الروحي القائم على العلاقات القلبية بين المربى والمربي، أي بين المصحوب والصاحب بما يشع من قلب المصحوب المعلم الدليل من نورانية الإيمان، وحكمة العقل، ومثال القدوة من معان يكون لها أثرها البالغ في التلميذ المربى الصاحب محبة وتوجيها وتعليما ونصحا. ولعل هذا المعنى الجليل يتضح إن وقفنا عند تناول دلالة التعليم في علاقته بالتربية وهو مضمون الفقرة التالية عن معنى التعليم عند الأستاذ عبد السلام ياسين.
ثانيا: التربية والتعليم عند الأستاذ عبد السلام ياسين: أية علاقة؟
لعل الرجوع إلى فصل مهم من كتاب مهم يبرز لنا جوهر هذه العلاقة عنده. الفصل هو فصل التربية والتعليم، والكتاب هو كتاب إمامة الأمة [8]. يتبين من خلال قراءة عنوان الفصل الجمع بين مفهومي التربية والتعليم، فلا تربية بدون تعليم ولا تعليم بدون تربية، وأن الأولوية للتربية بما هي تغيير لما بالنفس ثم للتعليم بما هو معارف وخبرات وتقنيات.
من هنا نجد أن الأستاذ في تناوله لمعنى التربية في المجال التعليمي المدرسي وفي سنوات جد متقدمة من عمله المهني والتدريسي والتنظيري يقدم نظرات ثاقبة ناقدة لمعنى التربية كما هي مقدمة في التعاريف المدرسية. وهكذا نجده في كتابه “مذكرات في التربية” [9] ينتقد بداية التعاريف التي تقدم عادة للتربية إما من خلال المقاربة اللغوية أو المقاربة العامة، أو بتناول تعريفها من خلال مقارنتها بالتعليم والخلط بينها وبين التأديب على السلوك الاجتماعي والتعليم.
(..)
تتمة المقال على موقع ياسين.نت.