فاتح ماي 2024: مقايضة غير عادلة على حساب الشغيلة

Cover Image for فاتح ماي 2024: مقايضة غير عادلة على حساب الشغيلة
نشر بتاريخ

بقلم: د. محمد بن مسعود **

وقعت النقابات الثلاث الأكثر تمثيلية (UMT- CDT- UGTM) مع الحكومة والباطرونا اتفاق التزام -دورة أبريل 2024- بتنفيذ اتفاق أبريل 2022، وكالعادة أطلق العنان لحملة تطبيل بالاتفاق باعتباره لصالح الشغيلة، في حين تعبر مضامينه عن نجاح استراتيجي للحكومة والباطرونا في تمرير مقايضة غير عادلة على حساب الشغيلة. ويمكن من خلال استعراض جملة من المؤشرات تأكيد هذه الخلاصة.

1- الاتفاق ليس خلاصة حوار اجتماعي ممأسس تطور على طول السنة الاجتماعية كما دُبج في الاتفاق، وكما يُروَج له!! بل هو ثمرة ضغط نضالي تطور إلى احتقان قطاعي في أهم القطاعات، في مقدمتها التعليم والصحة والجماعات الترابية والمكتب الوطني للماء والكهرباء… وامتد خلال الفترة الأخيرة ليشمل المتصرفين والمهندسين والتقنيين والعدول وموظفي العدل… ولقد نجح الحراك التعليمي وحراك الأطباء والتعليم العالي بدءا في اننتزاع الحق في مراجعة الأنظمة الأساسية مصحوبة بفرض مراجعة للأجور، علما أن المراجعة لم تشمل كل الأطر الصحية. إلى هذا السياق النضالي القطاعي المتمدد يعود الفضل في إقرار الزيادة في الأجور لمجموع الموظفين. ثم ينبغي استحضار كون الحكومة همشت النقابات الأكثر تمثيلية حين إعدادها لقانون المالية 2024 إلا اجتماعا دعتها إليه بشكل متأخر من أجل “الإحاطة علما”؛ وهنا يطرح السؤال عن جدوى الحوار الاجتماعي إذا كانت مبادرة الدعوة إليه محتكرة عمليا في يد الحكومة، أضف إلى ذلك أن لجنة “تحسين الدخل” لم تجتمع إلا في الأيام القليلة السابقة للتوقيع، ويعلم الحاضرون طبيعة الكلام الذي جرى خلالها.

2- لم يكن الجسم النقابي موحدا خلال الحوار كما يبدو في الصورة لحظة التوقيع، بل هناك من وقع الاتفاق يوم الثلاثاء، وهناك من فاوض بعد ذلك أسبوعا آخر. وهذا يبين كيف تدير النقابات مشتتة الحوار الاجتماعي في غياب التنسيق فبالأحرى التوحيد، مما يضعف القوة التفاوضية لملايين الشغيلة المغربية أمام المحاور الموحد فتضيع معه الحقوق.

3- لقد تم توقيع الاتفاق، وأكثر من 200 أستاذة وأستاذ مناضل(ة) ينتمون إلى مختلف النقابات موقوفون عن العمل ظلما منذ أزيد من ثلاثة أشهر مع توقيف الأجرة، ومحالون على مجالس التأديب بسبب معركتهم النضالية المشروعة، وكان يجب على الحكومة بضغط من النقابات مجتمعة طي هذه الصفحة بسحب التوقيفات وإرجاع كل الموقوفين، واغتنام الفرصة للتصالح مع الشغيلة التعليمية، وترميم جسور الثقة المهدمة. الأمر الذي لم يحصل، للأسف! فكيف لما يقرب من 400 ألف إطار تربوي يحتفلون بفاتح ماي وهم ينتظرون المصير الغامض لزملائهم، علاوة على إقصائهم من الزيادة في الأجر.

4- الاتفاق أخذ طابع مقايضة غير متكافئة، جعلت منه أشبه باتفاق إذعان؛ حيث تقبل الشغيلة بتحمل كلفة تخريب الحكومة لصناديق التقاعد من عمرها برفع سن التقاعد إلى 65 إجبارا، وبالرفع من المساهمة وتخفيض المعاش، ومراجعة نظام الاحتساب، وكذا القبول بتكبيل الحق في الإضراب، مقابل زيادة انتقائية غير كافية وعلى سنتين في الأجور. إن المنطق يحتم أن تتم مناقشة موضوع تحسين الدخل في علاقة بالتضخم وارتفاع الأسعار، وجمود الأجور منذ 2011، وضعف القدرة الشرائية للأسر، وآثار القرارات غير الاجتماعية التي اتخذتها الدولة على الطبقة المتوسطة والفقيرة، وهلم جرا، لا مقايضتها بحقين أصيلين للشغيلة وهما حق الإضراب والحق في التقاعد الكريم.

5- تحسين الدخل الذي وقعت عليه النقابات لا يرقى إلى مستوى احتياجات الشغيلة بتاتا، ويمكن تسجيل ثلاث ملاحظات عليه:

     (1) انتقائي لأنه استثنى الموظفين الذين استفادوا من مراجعة الأجور المصاحبة لمراجعة أنظمتهم الأساسية، وهذه لا تعتبر زيادة في الأجور بل هي كلفة مراجعة المهام والواجبات والحقوق؛ ثم هي ليست زيادة عامة في الأجور لأنها همت في القطاع الخاص الحد الأدنى للأجر فقط دون باقي الأجور؛ ثم هي زيادة لا تعكس توسع الهوة الأجرية بين القطاع العام والخاص من جهة، وبين القطاع الفلاحي (SMAG) وغير الفلاحي (SMIG) من جهة ثانية.

     (2) ثم هي زيادة موزعة على سنتين، وليست ابتداء من اليوم بل بعد أشهر، كل ذلك لتستفيد الحكومة والباطرونا من سلم اجتماعي كاف لتنفيذ مخططاتهما.

    (3) الزيادة غير كافية ألبتة، ولا تسد حتى الزيادة في تكلفة القفة شهريا، فما أدراك إذا أضفنا ما هو قادم بسبب الزيادة في تكلفة الماء والكهرباء والغاز، وباقي المواد الأساسية، وما سيترتب عن تفويت المرافق العمومية، وهلم جرا مما نعلمه ومما لا نعلمه.

6- لقد فازت الحكومة بانتزاع التزام مسبق للنقابات بإخراج “الإصلاح المرفوض” للتقاعد، والقانون التكبيلي للإضراب، وهو لعمري سيء للغاية، ذلك أن حرية ممارسة الإضراب يعتبر مكسبا تاريخيا للشغيلة. وكان واجبا على النقابة الدفاع عنه باستماتة، والموقف ذاته كان ينبغي أن يتخذ بالنسبة لصناديق التقاعد. النقابات مطالبة بأن تقف موحدة في صف الشغيلة خلال هذه السنة وفق الأجندة الزمنية الموقع عليها برفض أي إصلاح مقياسي وفرض إصلاح حقيقي وشمولي، ينطلق من استرجاع ديون الصندوق المغربي التي هي على الدولة، واسترجاع الأموال المنهوبة، وترتيب الجزاءات وتصحيح الاختلالات، وأن تلتزم النقابات من جهتها بعدم تكرار فضيحة تمرير الجولة الأولى من الإصلاح المقياسي للتقاعد تحت قبة البرلمان.

7- لقد تم الالتزام بمراجعة مدونة الشغل بمقاربة “تشاركية” تحت شعار “رفع إنتاجية وتنافسية المقاولة” و”محاربة الهشاشة وخلق مناصب شغل جديدة”. وكان على الاتفاق أن ينص قبل ذلك على تجريم حرمان ملايين العمال من الحماية الاجتماعية، أو هضمهم في حقهم الكامل في التصريح لدى CNSS، وترتيب الجزاءات على جرائم الاستغلال هاته، وأن ينص على التزام الحكومة بتوسيع وتقوية آلية تفتيش الشغل، وبضرورة إجراء تقويم تشاركي حقيقي لتنزيل مدونة الشغل قبل التوقيع على إخضاعها للتعديل استجابة لضغوط الباطرونا.

  • أعود نهاية لأؤكد على أن الحوار الاجتماعي تفاوض، وهو مبني أساسا على موازين القوى وليس نتائج الانتخابات المهنية فقط، ذلك أن الحق يطلب قوة متماسكة في الميدان ليمكن انتزاعه، وأن الحقوق لا تنمح تفضلا على طاولات الحوار، وهذا يقتضي تقوية الجسم النقابي عبر توحيد نضالاته قطاعيا ومركزيا، وتشبيك مؤسساته، وتنسيق جهوده. بدون هذا الشرط لا تنتظر إلا مزيدا من الاستغلال والاستعلاء والظلم الاجتماعي.
  • كنا اقترحنا لتجاوز هذه الإشكالية العويصة تشكيل جبهة نقابية تكون نواة لجبهة مجتمعية موسعة وقوية، مقتنعين بأن تشكيلها من شأنه أن يعبئ الشغيلة، ويعيد الوهج والمصداقية للعمل النقابي، ويقوي موقعها على طاولة الحوار، ويحقق المطالب، ويرفع من مستوى التفاوض ليشمل قضايا استراتيجية هي الآن بعيدة عن أجندات الحوار الاجتماعي على أهميتها: كميثاق العدالة الأجرية، وميثاق العدالة الضريبية، وآليات الارتقاء الاجتماعي، ومحاربة الفقر والهشاشة وتحقيق العدالة المجالية، وتدبير المرافق العمومية ذات الطابع الاجتماعي وربطها بمنظومة الحماية الاجتماعية، والمسؤولية المجتمعية والبيئية للمقاولة، وقضايا التنمية المستدامة في ارتباط بالشق الاجتماعي وتثمين الثروات الوطنية، والحد من انعكاس الالتزامات الدولية على حياة المواطن، وأضرار التطبيع مع الكيان الغاصب على النسيج المجتمعي والاقتصادي للبلد، وغيرها من قضايا.

نهاية أهنئ الشغيلة بمناسبة العيد الأممي للشغل، وأؤكد إدانتي للإبادة الجماعية في غزة العزة، فك الله أسرها، وأؤكد أن النضال التحرري يطلب ثقة ويقينا في غد أفضل، واقتحاما وصمودا في وجه موجات التشكيك والتثبيط والتيئيس. ونقدنا للواقع من أجل تجاوزه لا الوقوف عنده. ولا ينبغي أن نفقد الأمل في تحقق ما نسعى إليه من كرامة وحرية وعدالة اجتماعية ولو كره الاستبداد والفساد، لأن غدا لناظره قريب.

** كاتب عام القطاع النقابي لجماعة العدل والإحسان.