الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة (7).. الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي

Cover Image for الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة (7).. الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي
نشر بتاريخ

يعد مصطلح التنمية البشرية من المصطلحات الحديثة التي شاع صيتها، وبان أثر حركتها من خلال البحوث العلمية والتقارير الدولية التي سعت لرصد حركة الإنسان وتتبع تطور مستواه الحياتي، وعلى الرغم من حداثة هذا المصطلح، فمفهومه ومضامينه لم تكن جديدة على ساحة الإنسانية، بل اقترن بوجود الإنسان، فقد شمل القرآن الكريم كثيرا من الآيات التي تحمل مضامين التنمية البشرية، بل نجده يحمل مضامين مفرداتها حتى وصل إلى رصد بعض المؤشرات التي تعد أحد مقاييس المفهوم، هذا فضلا عن تعرض القرآن الكريم إلى الركائز والعناصر الأساسية للتنمية البشرية من خلال فهم السياق القرآني ومدلول آياته، إذ نجد أن منحى بناء الإنسان في القرآن الكريم هو ذات منحى التنمية البشرية بمفهومها العام والشائع في الأوساط العلمية، إلا أننا نلمس التباين واضحا حينما ندخل في الجزئيات والتفاصيل وكذا في الغايات. ومن خلال ما تم عرضه سابقا، يمكن الوقوف على أهم أوجه الالتقاء والاختلاف التالية:

أوجه الالتقاء بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة

يمكن تحديد أوجه الالتقاء بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة فيما يلي:

بناء الإنسان

فمنذ الولادة الأولى لمفهوم التنمية البشرية تزامن معها السعي وراء محور رئيس هو كيفية الوصول بالإنسان إلى المكانة التي يستحقها بوصفه الثروة الحقيقية لأي أمة، وبهذا ستكون أهداف التنمية البشرية هي تحقيق ذلك التغيير الإيجابي عن طريق بناء الإنسان ساعية لسعة خياراته المشروعة بتطوير إمكاناته الذاتية، مع إيجاد سبل تحقيقها، وصولا بالإنسان إلى موقع الريادة في العملية التنموية من حيث استقراره وطموحاته. ونجد نفس الأمر في المنهج الإسلامي، حيث نرى في أحكامه تنمية شاملة للإنسان، فتارة نجد قواعد تهتم بتنمية المهارات الإدراكية، وتارة نجد قواعد تهتم بتنمية الأمور الاقتصادية، وتارة أخرى نجد أن هذه القواعد تهتم بتنمية الجوانب الأساسية لحياة الإنسان. ويمكن إجمال مظاهر بناء الإنسان في المنهج الإسلامي ومنهج التنمية البشرية المعاصرة في:

1. الفعالية والكفاءة

تسعى كل من التنمية البشرية والتعاليم الإسلامية إلى ترسيخ مبدأي الفعالية والكفاءة لدى الإنسان، فالفاعلية هي فعل الأشياء الصحيحة لتحقيق الأهداف المرجوة. والكفاءة هي فعل الأشياء الصحيحة بطريقة صحيحة، فيتم استخدام أقل كم ممكن من المدخلات والموارد كالوقت والجهد والمال للحصول على أكبر منفعة. ومن سمات هذين المبدأين بناء قوة كافية داخلية تبعث في نفس الإنسان القدرة على العمل الدؤوب والحركة المستمرة من أجل تحقيق أفضل النتائج على المستوى الفردي والاجتماعي.

2. التمكين والمشاركة

تعمل كل من التنمية البشرية وتعاليم الإسلام على تعزيز قدرة الإنسان على إحداث التغيير، عبر المشاركة في العمليات السياسية والأنشطة الاجتماعية والثقافية والتأثير فيها والاستفادة منها في الأسر والمجتمعات والدول، وذلك من خلال تنمية قدرات الإنسان على اتخاذ خيارات وتحويلها إلى إجراءات ونتائج. ويتلازم توفير التمكين للإنسان في جميع المجالات وضرورة بناء المهارات والقدرات لممارسة الصلاحيات بالشكل الصحيح والأمثل، وأخذ القرارات، وتحمل المسؤولية.

3. التأهيل والإعداد

يعتبر التأهيل ورفع القدرات والمهارات عند الإنسان إحدى الأولويات لدى كل من التنمية البشرية والشريعة الإسلامية، فهو عملية إعداد الإنسان ليكون عضوا صالحا في مجتمعه، قادرا على تأدية واجباته. والتأهيل في الأصل يسعى إلى صناعة الإنسان روحا وفكرا وسلوكا، وتحويل وجوده من مجرد شخص متلق واستهلاكي إلى شخص منتج ومبدع عبر العمل على تغيير أنماط عيشه وطريقة تفكيره. 

خدمة الإنسان

لا يختلف اثنان عــلى حرص خطــط التنميــة البشرية على خدمة الإنسان، “عقليا وجسديا ووجدانيا وحركيا، وتحقيق توازنه البيولوجي والنفسي في الوسط الاجتماعي، عبر تحسين ظروفه المادية والاقتصادية والاجتماعية، وتغير مستوى معيشته من خلال تقديم رعاية صحية لائقة به وتحسين دخله الفردي السنوي وتوفير منظومة تربوية متقدمة تؤهله للانفتاح والمساهمة في تحقيق الازدهار والتقدم” 1، وذلك من خلال فهم متطلبات الناس، وتوسيع خياراتهم، وتلبية احتياجاتهم. وهذا ما سعت إليه الشريعة الإسلامية، حيث نلمس ذلك واضحا في مقاصدها التي تروم “تحقيق مصالح العباد بالإيجاد لها أولا ثم حفظها ثانيا، وهذه المصالح هي حفظ الضروريات وتحقيق الحاجات وضمان التحسينات” 2. وتتجلى بعض مظاهر هذه الخدمة في:

1. تأمين كرامة الإنسان

تسعى كل من التنمية البشرية والتعاليم الإسلامية إلى تحقيق الكرامة الإنسانية عمليا عندما تتم تلبية الحاجيات الطبيعية والضرورية للإنسان، سواء كانت عضوية كالتغذية والصحة وحرمة الجسد، أو اجتماعية كالسكن والشغل والتعليم، أو فكريّة كحرية التعبير والتفكير. وحرص كلا المنهجين على تأمينها نابع من كون الكرامة هي قطب الرحى التي تجعل من المبادئ والقوانين فعالة وناجحة.

2. ضمان حقوق الإنسان

تحرص كل من التنمية البشرية والتعاليم الإسلامية على تمتع الأفراد بكافة حقوقهم وحرياتهم الأساسية، كما تضمن عدم انتهاكها، بإرساء الآليات التي تكفل نفاذها، وتشمل هذه الآليات التشريع الإسلامي بجميع صوره والضمانات القانونية التي تنصرف إلى القواعد الدستورية، الضمانات السياسية المتمثلة في الرأي العام، الأحزاب السياسية، التقدم الاجتماعي الاقتصادي والثقافي.

3. تلبية حاجات للإنسان

تسعى كل من التنمية البشرية والتعاليم الإسلامية إلى الاستجابة إلى حاجات الإنسان الأساسية المتمثلة في الغايات التي يلزم تلبيتها أو المشكلات التي يلزم حلها في المجتمعات البشرية المختلفة، ووفق الأولوية والأهمية تنتظم تلك الحاجات الإنسانية في ثلاثة مستويات، فهي ملحة، ومهمة، وتكميلية، سواء أكانت للأفراد أو الأسر أو المنظمات أو المجتمعات، أم للبشرية جمعاء.

الإنسان محور التنمية

يعتبر المنهج الإسلامي ومنهج التنمية البشرية الإنسان محور التنمية بكونه الفاعل فيها والمستفيد منها، ويظهر ذلك جليا من خلال تعريف التنمية البشرية بأنها “تنمية الناس بالناس ولأجل الناس”، وهذا يعني أن الإنسان هو رأس المال الحقيقي لأي أمة، ويتفق المعنيون بموضوع التنمية على أهمية الاستثمار فيه بالشكل الأمثل. وكذلك الأمر في المنهج الإسلامي إذ يعتبر الإنسان هو التنمية بكل مقوماته بما فيها عنصر الأموال، فالمستهدف هو ترقية هذه المقومات الإنسانية وتحسينها وحمايتها، والتي جمعها علماء الإسلام في خمسة مقاصد هي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والوسيلة لتحقيق ذلك هي الإنسان بما لديه من مقومات، فالمنهج الإسلامي للتنمية موضوع يبدأ بالإنسان ويستمر بالإنسان وينتهي بالإنسان، فهو بالإنسان وللإنسان”. فالإنسان هو في النتيجة النهائية، النواة التي تلتئم حولها كل عناصر التنمية بجميع أهدافها. وتتجلى مظاهر هذه المحورية في:

1. التغيير الذاتي

تؤكد كل من التنمية البشرية والتعاليم على أهمية التغيير الذاتي، فالإنسان بناء على ما سبق هو من يحدث التغيير وهو المقصود به، وليس مجرد أحد مكونات عجلة التطور، حيث إن تغيير الأوضاع لا بد له من إحقاق شرطه وهو تغيير ما بالنفس، إنه الشرط الذاتي الذي يتوقف عليه أي تغيير يرجى. والطريق المؤدي إلى ذلك هو أن يؤمن الإنسان بطاقاته وقدراته، ويتعب على نفسه بنفسه، فيتعلم ويفكر ويخطط، ويعمل ويتحرك ويجتهد، وكلما اجتهد أكثر كانت فرصه في الرقي أكبر.

2. التغيير المجتمعي

تشدد كل من التنمية البشرية والتعاليم الإسلامية على مسؤولية الإنسان المجتمعيـة، والتي تتطلـب منـه الإدراك الكامـل لمعـنى النهـوض بالمجتمع. فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لذا يتعين عليه القيام بالواجبات والمسئوليات التي يتعين عليه أن يحافظ عليها في علاقاته داخل مجتمعه لصالح الآخرين فضلا عن واجباته تجاه الأسرة. وتمثل الواجبات والالتزام بها وتنفيذها نقطة التوازن التي تقوم عليها دعائم الأمن والاستقرار المجتمعي.

3. التغيير السياسي

تؤكد كل من التنمية البشرية والتعاليم الإسلامية على قدرة الإنسان على الأخذ بزمام المبادرة في الشؤون السياسية لتأسيس وتطوير بنى جديدة وقيم عصرية قادرة على استيعاب ما يعرض من مشكلات والسعي لحلها، وذلك عبر قيامه بدوره في عملية صنع القرارات السياسية، وفي مراقبته هذه القرارات بالتقويم والضبط.


[1] حسن بن إبراهيم الهنداوي، التعليم وإشكالية التنمية، مفهوم التنمية، موقع إلكتروني للمكتبة الإسلامية على شبكة إسلام ويب، (php.index/newlibrary/net.islamweb.www://http).
[2] عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، ص389.